مركز الإستطباب بالنعمة: عندما يستجدي المرضي الكزانة و الحجابة ؟ (رأي صوت الشرق)

شعار الشرقنزلت في محطة  سونف للنقل بمدينة كيفة في انتظار قدوم الباص الذي سينقلني إلي  النعمة. كانت الساعة زهاء الرابعة بعد ظهر السبت. بعد لحظات يسيرة  توقف الباص  المتجه  من النعمة إلي انواكشوط. أخذني الفضول  إلي  الاضطلاع علي الركاب القادمين من الشرق. من عمق موريتانيا …. أي من موريتانيا الأعماق. و ما دريت هل الضجر و طول الانتظار في محطة الركاب و الجلوس القرفصاء ساعات علي بقايا حصير هو الذي حرك فضولي. أم أن الشوق للرجوع إلي الموطن و النظر في وجوه بعض معارفي هو الذي حرك رجلاي المثقلتان.

وقف الباص القادم من الشرق. فتحت الأبواب و نزل المسافرون. يسابقون الوقت لاقتناء ما نض من الزاد: قنينات ماء معدني، لفائف الشكولاتة و البسكويت…

و نزل صديق صديقي المقرب. أحد المؤذين في أحد مساجد المدينة وعسكري متقاعد معروف بالاستقامة ودقة معرفة مواقيت الصــلاة. يقتدي بأذانه الصائمون طوال رمضان خاصة. أو علي الأقل وقت الفطور…

لم أعهد صديق صديقي كثير السفر، و لذا سألته عن أخباره، و ذويه و ما أمر سفره إلي انواكشوط في هذه الظرفية الزمنية و في الاتجاه المعاكس لسكان الشرق. قال لي، و قد عرفت في وجهه الاستياء:” ولدت لنا طفلة يوم أمس و قال الأطباء إنها تحتاج لعملية جراحية لقطع حبل سرتها،و قد نصحوني بالتوجه بها إلي انواكشوط”. قلت له: و هل يحتاج قطع حبل سرة المولود إلي إجراء عملية؟ قال لي: هكذا قالوا دون أي تفسير آخر… سألته: هل أنت متأكد من أن الولادة جرت في مرفق صحي أم أنها كانت علي يد مولدة تقليدية؟ ضحك…قليلا.و قبل أن يجيب، أطلق البــاص صفارة الإنذار إيذانا بمواصلة الرحلة. ودعت العسكري المؤذن المتقاعد علي عتبة باب المدخل و أوصاني  إن أنا رجعت إلي النعمة بأن أنصح الناس  باستشارة  العرافيـــن أو الحطابة لعل ذلك يكون أفضل… ودعته و عدت إلي مجلسي وإنني لشدوه الفكر في ما قاله لي. العرافة… الحطابة…الحجابة… قطع حبل السرة… عملية جراحية….

ثم تذكرت….

 تذكرت أولئك المساكين الذين قضوا نتيجة الإهمال الطبي…وفي مستشفي جهوي من الدرجة الأولى… و تحت أنظار أطباء يحسون أو لا يحسون بمدارك رسالتهم الإنسانية النبيلة….

تذكرت جميلــة، و يرب، و أحمد، و غيرهم ممن لفظوا أنفاسهم الأخيرة من ضيق في التنفس و افتقار مركزنا إلي ….

تذكرت دموع أحــد أطبائنا الشباب الذي وجد نفسه عاجزا عن  إسعاف مرضاه و حيث لم يتوفر لديه أدنى مسلتزمات طبية…

تذكرت أطفالا بترت أطرافهم و لئن كانت لا تحتاج للبتر….

تذكرت أولئك الأطفال و النسوة الأبرياء الذين أصيبوا بالتخمة فزعم إنهم مصابون بانتفاخ الذائدة الدودية فأجريت لهم عمليات كلفت ذويهم عشرات آلاف الأوقية…..

تذكرت عمال و وكلاء يتمتعون بالضمان الصحي فحرموا منه حين احتاجوا للخدمات الصحيـــة…

تذكرت أن الإنسان قد يصبح دون الأنعام كرامة  عندما يضحى تحصيل الرزق مبدأ ملازما له في حياته.

تذكرت كم مريضا كتبت له وصفة طبيــة خطيرة عواقبها علي صحته إذا ما تناول الأدوية المنصوح بتناولها…

تذكرت كم وصفة طبيـــة تضمنت عشرات الأدوية مختلفة التسمية متحدة المفعول.

تذكرت مرضى   فقراء و عجزة طردوا  قبل أن يتماثلوا للشفاء لآن جيوبهم خويت…

تذكرت العيــــادات… و الصيدليات….و تكاليف المعاينة…و الأدوية النافقة…و التحاليل المحرفة…و الكشف الغامض…و الذباب…والأوساخ…و المياه الراكدة… و الحرارة المذيبة للجبين…

تذكرت سيارة الإسعاف… إسعاف المرضى؟… إسعاف أكياس الدجاج وغذاء الدجاج…و بيض الدجاج…و لحم الدجاج… و بعبارة مختصرة: سيارة إسعاف الدجاج.

تذكرت…

كم جرى من انتهاكات لحقوق الإنســــان…. نعم الإنســــان…

عندما يفقتد الإنسان  حس الرحمــة و الحنان و الرأفة….

و هل نفهم من هو الإنســان… ما قيمــة الإنسان… ما الإنسانية…حق الإنسان في العيش… حق الإنسان في الصحة… حق الإنسان في يكون إنسانا… حق الإنسان في أن يكون ….

يعتقد البعض أن الفساد يعني الفساد المالي فحسب… فيقال مثلا ذاك المسئول مفسد لأنه اختلس أموال هذه المؤسسة، و هذا مفسد لأنه استغل مؤسسة ما لشراء كم من الدور و الإبل و البقر… إلا أن الفساد أشمل و أعم من الفساد المالي.المال يذهب و يجيء…و هناك ما لا يدرك بعد فواته. ألا و هو الكرامة و النفس البشرية.و عليه فإن أكبر و أخطر فساد سيبقى فساد الإنسان إنسانيته، و إفساده لكرامته، و خيانته لأمانتــه. و هو سلوك ما كان ليليق باثنين عظيم شأنهما ،رفيعة مكانتهما الاجتماعية: المــــربى و الطبيب. جوادان  يحملان هموم مجتمعاتهم و  ترقى بهما و تتعزز…

… لا بالعرافيــن و الحجــابة و الحطابين و النصــابين..

  تذكرت أنني و من علي شاكلتي نعيش مآسي مجتمعنا. نراها…نلمسها…نتحسسها ثقيلة علي أكتافنا،  و أننا  لزاما علينــا الدفاع عن الحقوق مهما تنوعت و مهما كانت جهة و درجة انتهاكها.

إن كنـــا بشـــرا حقا… لا نعاجا قرناء جرباء حمقاء…

…. أخيرا تذكرت..

تذكرت حبــــل الســرة … العسكري المتقاعد… الباص…. العملية الجراحية…  عويل الوليدة البريئة و دمعــة أمها المسكينة…

… الطريق الطويلة و الشاقة ما بيـــن مركز الإستطباب في الشرق العميق  و المستشفى الوطني عنـــد مغرب الشمس.

اترك تعليقاً