راي الشرق: الاختلاف رحمة للتكامل و الانسجام

لكل يتحدث عن موجات العنف الذي يعصف بالعالم منذو الخمسة أعوام أو يزيدون.حيث يجد كل متحدث مصوغات لهذا العنف حسب الركونات التحليلية، أو المخابراتية ، أو الاجتهادية. هذا يحمل وزره لثورات الربيع العربي( ويكأن هذه الثورات خطيئة كبرى)، و ذاك يسوّقه ضمن تغوّل الإمبريالية المعاصرة ، و آخر يرجعه إلي واقع الجهل و الفقر و الشعور بالدون الذي تعاني منه الشعوب العربية في ظل أنظمتها الاستبدادية ، و رابع يري أن موجة العنف الحالي إنما هي بالأساس ظاهرة صحية لتعافي المجتمعات من الأزمات التي تحول دون تسريع وتيرة الاندماج العالمي و أن تطور أي مجتمع يمر حتما بمحطات من الفشل و الإحباط: فشل سياسي- اجتماعي ( كما في مصر إفريقيا جنوب الصحراء)، فشل أخلاقي( كما الحال في سورية و اليمن )، فشل تنظيمي( كما في ليبيا ) ، فشل حضاري-مدني الذي هو بدوره نتاج النظرة الاستعلائية ( بالنسبة لأوروبا

و أمريكا). و أخيرا فشل في كسب معركة الوجود و الأثرة ( كما في أراضينا المحتلة و المغتصب الصهيوني).

و إذا كان جل اهتمام المحللين و المخبرين و الإعلاميين ينصب حول الوقوف علي مكامن العنف الحاصل و العابر للحدود ، أي ما يسمى ظاهرة الجماعات الجهادية المتطرفة التي تقتّل و تشرد تحت شعار الدين و الحرية و الكرامة، فإننا لم نسمع أو نرى من يبحث في الحلول الجوهرية التي من شأنها تفادي هذا العنف أو علي الأقل احتواءه . و لن يكون احتواء الجماعات الإرهابية إلا عن طريق فتح حوار شمولي حضاري متمدن و مسئول تتعرف من خلاله الأطراف كل علي ذاواتها و تجد فيه ضوالها و شوا ردها.

فعلي النقيض من السعي الجاد و المنهجي لإطلاق مقطورة حوار حضاري-ثقافي- عقائدي عالمي ، ترى بعض الأطراف((المتضررة)) (ظاهريا) أن الحلول الأمنية و العسكرية كفيلة  لإحقاق الاستقرار العالمي و ضمان الأمن القومي و الدفاع عن المصالح و تغيير مسلكيات أضحت عقائدية جهادية مصيرية أكثر مما هي ظاهرة عابرة ترتبط بجهة ما أو بمذهب ما أو ببلد ما….

و السؤال الذي يطرح نفسه هنا (من باب حكم المنطق وواقع منطوق الحكم): أي قوة عسكرية في عالمنا المعاصر تستطيع أن تضمن لنا أن لا مجال لحرب كونية ثالثة ورابعة و ربما خامسة؟ أي دموقراطية (محايدة)و مستنيرة في عالمنا تستطيع أن تضمن لشعوب المعمورة ألا عودة للإمبراطوريات الأحادية الغاشمة؟ قد يقول قائلهم إن الاستعمار في القرن الحادي و العشرين ضرب من الخيال العلمي و الميتافيزيقي ، و أن نشوء الدولة الدينية من جديد إرهاص من وساوس الجــان. و قد يذهب البعض إلي أن العالم في تطوره المطرد و انسجامه و تناسقه لن تنال منه صرخة مضطهد و لا أنين جائع و لا ثارات مرمّلة و لا دمعة يتيم باردة( و لئن كانت دمعه اليتيم كالجمر تذيب قلب من كان له قلب). و قد يقول قائل: ما الجدوى من محاورة الإرهاب و الإرهابيين. و هنا ننسى كلنا أن الإرهاب من صنع البشر خدمة لبعض البشر، صنع بعض الدول لفرض إرادتها علي بعض الدول، و أن مداراة العنف بالند لا يتولد عنه سوى المزيد من العنف و الدمار و نكوص عجلة العولمة خطوات بل عقود إلي الوراء.إن إطفاء النار الملتهبة بالخشب لن يزيدها إلا التهابا و ضراوة و اتساعا و اتقادا، و أن من أساء التقدير و لم يتبصر في عواقب الأمور يسمى فاشلا حقا. و هذا الفشل العالمي الحاصل اليوم قد يكون حسيا ، كما قد يكون ممنهجا و محلّقا و مدعوما ، بل إن (البعض) يراه ضروريا و ملحـــا…

لطالما أصابنا البشم من كثرة تجرعنا كاسات المبادئ السامية التي يكيلها لنا الغرب ((المتمدن)) كيلا ّ و يزنها لشعوبنا قناطير مقنطرة:مبادئ برّاقة مظاهرها خشنة بواطنها، حلوة روائحها مــرة مذاقاتها ،نفيسة مواطنها تعسة مزاراتها، وطية شراشيفها  منفرة مراكبها. فإذن لماذا لا تصحح أمم المدنية العريقة أخطاءها؟ و إذن لماذا لا تسعى الأمم المتحدة ،رغم اختلافاتها و خلافاتها و اختلالاتها ، تسعى لبناء عالم شامخ، السلم عماده، و المحبة إزاره، و المساواة دينه، و الإخاء ثماره ، و التعاضد و التكامل الإيجابي ديدنه، و الحوار و المشورة نظامه و سراجه، و العطاء الثقافي و التقني سلعته…عالم تختفي فيه الحدود و تذوب الفوارق، و تنصهر فيه الشعوب، و تدك فيه الخلافات و تصان فيه الأعراض و الأموال و الدماء….عالم تضحك فيه الطفولة ملأ فيها ، و تتغنى فيه العرائس زهو أفراحها ، ويسعد فيه الأخلاء و توأد فيه العداوات…فبالحوار الجاد وحده تبنى الأمم و تتقدم و يحل السلام و الأمن لا بالسلاح و التجابه و الترهيب و البغي و الحرابة. فلننشئ ذن مجلسا أمميا للحوار يكون بديلا عن مجلس الأمن الدولي ما دام الاختلاف رحمة قد تعزز الانسجام و التقارب بين  الأمم. و لن يتطلب منا هذا الأمر سوى أن نجلس برهة و نفكر واضعين نصب أعيننا أننا بشــــر…

إن الفكر البشري بقدر ما استطاع أن يصنع السلاح الفتاك و يوجد الحرب ، بمقدوره صنع السلام و المحبة…فلنصنع السلام و لنزرع المحبة و لنبني جيشا أمميا قوامه مائة ألف من الفتيات الغر أو يزيدون سلاحه باقات ورود الخير و بسمات الأمان ، عندها فقط سيكون حصادنا أننا أقمنا عالما لا ضر فيه و لا ضرار، عالما كالزمردة المتماسكة : عاليها الفضيلة و سافلها السعادة.

اترك تعليقاً