راي صوت الشرق| نعمت الحريات و لكن في حدود القانون

  قرأت في بعض التدوينات علي شبكات التواصل الاجتماعي استياء بعضهم من مجريات محاكمــة  أعضاء حركــة إيــرا و الأحكام التي وصفوها بأنها مثيرة للجــدل و الشجب ، واصفيــن إياها بأنهـــا تخــرق القوانين و  تنتهك الحريات و الأعراض ، و أنهــا أخطـــر من عدم الاعتراف بوجود ظاهرة العبودية في بلادنـــا.

و هنــا أقف عند مسألتين هامتين جــدا أرى من الضروري تناولها من طرف كل المثقفيـــن و الناشطيـــن في مجال بناء و تبني مجتمع موريتاني يرفل في نعمـــة الانسجام و التكامل بين مختلف مكوناته ،علي درب ما ألفينـــا عليه الآباء و الأجداد  وسدنة النسيج الاجتماعي في هذا الربع من المعمورة مستقيــــن ذلك من تعاليم ديننا الحنيف و تأسيـــا برسولنــا الخاتم الأميــن.

المسألــة الأولى التي أثارت قريحتي هو ذاك العطف و الدفاع المستميت  عن حركـــة نعلم كلنــا ما تبنته من أفكــار و رؤى كادت تعصف بوحدتنا الوطنية و تهدد سلمنـــا الاجتماعي، بل ذهبت إلي المساس بمقدساتنا الدينيــة التي هي خط أحمر،وأسود ، و فوق بنفسجي لدى كل موريتاني مهما كان لونه أو عرقه أو جهته أو تطلعاته إلي الحرية  و العصرنة الفكرية و الحضارية و المــادية و المدنية حتــــى. و رغم كل  تلك الأفعال و المتاهات التي أريد لها أن تبلغ مدى لا نتمناه و ما تمنياه بغض النظر عن اختلافات و اختلالات رؤى مكوناتها  القوميــة، و رغم تحركات الشعب و أصوات الاستنكار و الرفض من طرف الجميـع ، ظلت الدولة الموريتانية  تتعامل مع الحركة بحكمــة و حنكــــة مبالغ فيهمــــا، حتى حسب أصحاب حركــة إيرا – مع كل ما أكن لهم من احترام و تقدير لرأيهم- أنهم اسمي من الدولــة ، وأعــــزّ من المجتمع الموريتاني الرافض للفرقة، و أنهم هم القانون و فوق القانون، بل فوق كل المواثيق و السنن و العقود الاجتماعية. فكم من منـــــاد من مختلف مكونات مجتمعنــا صدع بضرورة إسكــــات ” المارقين علي وحد ة  نسيجنا الوطني”. و كم من مطالب بضرورة اتخاذ الدولة الموريتانية موقفا حاسما ،جازما يحــرم و يجرم  و يحظــر الحركة؟

 أصابت الحكومات الموريتانية حينها إذ  لم تصغي لغضب  الشعب الرافض لمبادئ و تطلعات الحركــة الإنعتاقيــة.

 أصابت الحكومات الموريتانية حين آثرت تجاهل  دعوات الانتهازيين ممـــن   نصبوا أنفسهم دعاة و حمــاة لحقوق الإنســــان و في نفس الوقت متغاضين أو جاهليـــن أن ” حــريتي و حقوقي تنتهيان حيث تبدأ حرية و حقوق الآخــر” أي حرية الفرد الواحد. فكيــف إذا كانت حريتي و حريتك و حريته تــــدوس علي أمن و سيادة دولة و شعب مختلف اللغات ، متجانس المشرب، متكامل الغايات ، متآلف  الشراييــن في حلـــّها و ترحالها.

نعم لحريـــة الرأي و لحرية التعبيــر و لحريــة أن تكون أو لا تكون.

ولكـــن…

 لن  تكون حريتك ذات معنى، ولن توجد لها  لذة، ولن تكسبها  جــدارة إلا إذا ما أحسست أن  حدودك الزمنية و المكانيـــة  تتقاطع و تتشابك و تتكامل مع حدود آخرين كثـر يحسون كما تحس، يحترمون الرأي و يجلونه. فإذا أنت مطالب ، بل ملـــــزم باحترام آرائهم.

ثم إن المحاكمات المفرطة و اللاعادلة التي يتحدث عنها البعض منغصــا نزاهة قضائنــا، و مختلقا لنصوص و قوانين و شرائع لا تمت لنا بصلة و لا بديننا و لا بقيمتنا الأخــلاقية بشيء و لا نرتضيها نهجا نسير عليه . فأي غــربي ممن يغذي  جذوة و صيرورة حـركة إبرا يستطيع أن  ينتقد في بلده حكمـــــا أصدرته محاكمه ضــد من وجهت إليهم اتهامات بتنغيص فأرة من نومها أو انتهار كلب عن النباح أو البصاق في وجه خنزير. فكيف إذا كان حكم محكمة الغربي الدخيــــــل صدر ضد من نعت بزعزعة الأمن القومي  و الدعوة إلي  التناحر الاجتماعي. حتى  الكلمة، حتي الإيماء، بل حتى التهديد ولو كان مزاحا بيــن الأحبة يعتبر جرمـــا تجب محاكمة مرتكبيه. ليـــس لأن الغربيين أكثر منـــا شعورا ببشريتهم ، و لا لأنهم  أكثر منـــا استمساكا  بالحرية وليس لأنهم أحرص منـــا علي إحقاق الحقوق. لان الغرب هو جهنـــم بذاتها ،  لا ينتقد  إلا ما يفعلـــــه الآخر، ولا يثير حماسه و جشعه  إلا ما فيه تعكيــر لحياة  الأخر. علي هذا جبــل و خاصة إذا ما تعلق الأمر ببلدان يريد لها التبعيــة ، والسفولية.لا قــدر الله ذلك لبدنا الحبيب و لشعبنا الواعي النبيه.

و المسألة الثانية التي أردت التوقف عندها هي مسألة « العبـــودية” في زعم حركــــة يرام و ملأه… و إن كان قد قيل في شأن العبودية في موريتانيا ما قد قيل : عبر وسائل الإعلام، و من على المنابر، في الندوات الفكرية و الثقافية، في النوادي الثقافية و الرياضية، في الشوارع الواسعة،  في الممرات الضيقة، في الأحياء الفاخرة و في الكبــــات، في  المقاهي و المزابل…. مما يفنـــــد مزاعم المتنطعيــن، و يكذب مباحث الناقمين، و يخـــــزي تقارير المتملقين، و يسفه أحلام دعاة التجزئة و الانتقام. و الأجدر لو كان فرسان هذه التجـــارة الكاسدة  نادوا بانعقاتهم من الانتماء إلي القرن الواحد و العشرين، بل من تنفس  الهـــواء الأرضي !

و بما أننا لا نمتلك من الفطنة و الدهاء لأن نقـــول أكثر مما قاله جهابذة علمائنا، و أدبائنا و مثقفينــــا و ساستنا في السياسة و علوم الاجتماع والنفس ، فإننــــا  نخلص إلي الســـؤال التالي آمليــــن تلقي الإجابة الشافية للقلوب و القولون و المآقي و الكلى من قبل المتاجرين بالعبودية و ساستهم. هلّا يعترف الغرب بأن أجزاء كبيرة من شعوبه يبيتون في العرى و ببطون خاوية ؟ أليس هذا أخطــر عبودية و انتهاك لحقوق الإنســــان؟ لم لا يعترف الغرب بأنه مسئول عن كل ما يجري في العالم من قتل و تشريد و تجويع و ترهيب؟ أليست هذه عبودية و خرق مخزي للحقوق و الحريات ؟

قال لي صديق يعيش في أمريكا منذ ثمان سنين أنه و رفاقه و بعض الرفقة من أصول أميركية أنهم يعلمون طول نهارهم  في  سين سناتـــي، يسكنون بيتـــا لا تزيد مساحته عن اثني عشر متر مربع ، و أنهم  ثلاث و عشرون  نفرا. يتناوبون النوم في الغرفة، ثلاثا ثلاثا، و البقية المتبقية يستغلون القطار المتجه إلي دترويت زهاء السابعة مساء، ثم يعودوا  علي متن نفس القطار صبيحة اليوم الموالي للحوق مباشرة بمقار عملهم.

و حكي لي صديق آخر أن بعض المهاجرين علق به  جرو كلاب في أحد شوارع مدينة نيويورك، فأراد  المسكين إبعاد الجرو من طريقه، فأومأ بيده للكلب أن ابتعد.و من سوء الحظ أن أحد أفراد الشرطة كان بالقرب ،فما إن أبصر حركة المهاجر حتى انكب عليه و كبل ذراعيه ثم اقتاده إلي المخفر.

تصوروا، يا أيها دعاة الحقوق و الحريات و العبودية: بلد عملاق مثل الولايات المتحدة ينام فيه المواطنون في العراء، و يموت البشر فيه جوعـــا.

أمـيركـا…إيـرا…حقوق الإنســــان…وأي إنســــان…العبودية….الاستغلال…حقوق الحيوان…علـــب الألوان…مارتن لوثر كينغ…. اتشغفيرا…. بيــرام…. نيلسون مانديلا… القضاء… الظلم…. الانتهاك…. الآخــــر…..جهنم…. التدخل في شئــون الدول…. السلم الاجتماعي….الهيمنة…الاستعمار الجديد…فرق تســد…التبعيــة…إعادة ترسيم الدول و الحدود…الدفاع عن الأقليات…. الديمقراطية…. حرية الرأي و التعبير و البكاء و العويل و…. نسج أطياف الخيـــال… و مس الجــان….و فتيان البوكمون… و فتاوى ما وراء البحار في جهة الشمال بمحاذاة النقطة صفر….سوق عكـــــاظ … النخاســة و سوق النخــــاسة.

الأهم من ذا كله،و حلمنا الأبدي ، و قيمتنا الحقيقية ،ونهجنا الراسخ هو أن نبني موريتانيا في السلم و الأمــــان ، و أن نكون يدا بيد  للحفاظ علي تناغم و انسجام نسيجنــــا الاجتماعي.و لو كلفنــــا ذلك أن نقتّل أو نسجن أو ننفـــى ، أو عذاب أليم لتحيــــا موريتانيا آمنـة مطمئنـــة ياتيها رزقها من كل مكان…

التحرير

 

اترك تعليقاً