تبتّل في محراب ولد آدبّه (*)

مقواسي يعلـم مول الغيبْ / يبْريه إلى شفت امطاليگ
عيون نواگلمش واگليــــــب / اعليّ واحسيْ نواليـــــگ
تلك همسة، أو أنّة مشتاق يطوّقه الحنين إلى مرابع ألفها، وديار عرفها، اختزلت أسماؤها ذكريات الأحبة والأهل، وسجلت أيام والصبا ومغاني الطفولة في سجل المشاعر المتقدة، والعواطف الجياشة .. إنها همسة صادقة من شاعر يجسد قمة الرقة والروعة في لغن الحساني، إنه امْحمد ولد آدبّه (المولود خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر، والمتوفى حوالي 1958 ).
 
 
يعطي “الگاف” أعلاه، ـ وهو كاف طلعة من لبتيت التام لولد آدبّه ـ صورة دقيقة لصدق مشاعر ولد آدبه في نسيبه وحنينه إلى مراتع شبابه، ومنازل أحبته، فالبداية بـ”المغواس” بما تعنيه من عمق ألم الحنين ولوعة البعاد، وإتباعها ب”يعرف مول الغيب يبريه” شهادة صدق بأحاسيس لا تغيب عن عالِم الغيب، وإن غابت عن الخلق، إنها تجسد عمق الإصغاء إلى الذات، والهروب إليها حين لا يجد الشاكي من يستمع إليه .. إنها خلجات هادئة عميقة، تظهر فقط عندما تختفي كل الخيارات الصاخبة
!
يقول ولد آبه في مشهد إبداعي آخر من مشاهد إبداعاته في الحنين (لبتيت) :
 
أسبوع يظلّ فيه اجموعْ / الغيد اعلَ راص إحيّاكْ
مجلاّت إحياكْ اسبــوع / مزالُ فالناس إحيــــــاك
زهدنِ فوْعيد امن ابعيد / ارجِ وِِدوجن والرشيـــد
ياسر عاد إزهّد فوعيد/ ذ الوكر أُذاك الوكر أُذاك
ماهُ حد افوكرك من سيد/ الوافِ، يالوكر أُلبــراك
أُلاه برك إجيك التوحيد/ ذكَدُّ والفكر، واخــــــلاك
امن اهلك وافطن غير إزيد/ اخلاك امن أهلك زاد اخلاك
يالوكر أياك الله إعيــد / باهلك وامنين إريد احذاك
اتعود الحلّ فم إريــــد/ امن ابعيد إريدك مـــــراك
غير احلفتنِّ يالمجــــيد / ما ننسَ يمالك لمـــلاك
أسبوع يظلّ فيه اجموعْ / الغيد اعلَ راص إحيّاكْ
مجلاّت إحياكْ اسبــوع / مزالُ فالناس إحيــــــاك
وازهدت افلبتيت ؤغزيت / انِّ زاد ازهدت افلبتــيت
مال لعد ابلحباب اتليــت / ازهدت افلحباب امنــراك
وامن اعدك مالتهيت أُريت/ من تقلاب الدهر أُلفلاك
ياسر وافطنِّ ماشكّيــــت / مراك انِّ لاهِ ننســــــاك
جدبك ريظ عنــدِ تميت/ واهلك واربيعك ذوك ؤمـاك
امنين ارخاوك مارتخيت / عندِ تميت الا بغــــــــلاك
غير آن نفن ماسوّيـــــت/ واسو ما تبكَ فيك امعاك
أسبوع يظلّ فيه اجموعْ / الغيد اعلَ راص إحيّاكْ
مجلاّت إحياكْ اسبــوع / مزالُ فالناس إحيــــــاك
 
 
وقد جسّد ولد آدبه في الطلعة الثانية السالفة الذكر، قمة التشبث بالوطن وحبّه مهما قسا هذا الوطن، معبّرا عن ذلك بـ”جدبك ريظَ عندي”. وإن كان ولد آدبّه ينتقل بين حبّ ربوع متعددة، ويترجم مشاعره اتجاهها كترجمة حبّ الوالد لأولاده المتعددين الذين لا يغني أي منهم عن الآخر كما أشار ابن الرومي:
هل العين بعد السمع تكفي مكانه / أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي؟
فإنه مع ذلك يتدرج في “هدهدة” هذا الربع أو ذاك حسب منازل الأحبة ومزاج الشاعر، وظروف كل ربع ومكان، وهذا لا يختلف كثير عن شعور الوالد اتجاه أولاده .. ولنتابعْ كيف انزاحت المشاعر إلى “انخيل محيميد” وأوكاره، بدل احيّاك رغم ما يحتفظ له به الشاعر من حنين وودّ (لبتيت).
 
عند انخيلْ امْحَيْمِيدْ اگبيلْ / طيتْ ٱمْگِيلْ ؤحانَيْتْ الليــلْ
وٱرْكَبتْ ؤطَيتْ ٱبلا تعطيلْ / عندْ ٱنخيلْ ٱجّالَ مُطلاگْ
فِالتطْراگ ؤفات ٱفْذِ الحيلْ / الليلْ ؤلا گِبْلِتْ لَخـــلاگْ
كُونْ ٱفْجَالِتْ لعناگ ٱمگيلْ / تعطيهْ ؤهاذ حـالْ اتفاگ
ما كارهْتُ لَخلاگ ٱنخيلْ / ٱمْحَيْمِيدْ ؤجالــــتْ لعْناگ
ذَ ما فيه الوكرْ إحيّـــاكْ / إيلَ ذاكْ افگايعْ، واخلاگْ
منُّ لاهِ تظياگْ أيّـــــاكْ / عاگبْ ذاكْ امّلِّ تِظيــــاگْ
 
ولا يظن القارئ الكريم، أن محمد ولد آدبه ، رغم كثرة إبداعاته في لبتيت، يقتصر شعره على هذا “البت” فقط، بل نسج في “بتوتَ” أخرى سيبقى “لبير” من أروعها لانسجامه مع أغراض ولد آدبه الأكثر في شعره (أي النسيب والغزل).
تعالوا إلى أنّات غريب، إلى صور بديعة من الحنين إلى الأوطان، والألم على رحيل ساكنيها (لبير):
 
واجعْ لخلاگ إلى ابعادْ / واد اشاريم او بـَرّْ زاد
واد الرشــــيد و برْ واد /ارجِ والواد امـــــراجع
صدرُو وامراجع كل عاد/ واد ؤحيوانُو نــــاجع
يا الراجع سابگ ما انزاد/ تشباشِي كانك راجـع
سير إنِيمِي ما تيت گاد/ ما تعطِي فيه امـــراجع
واتكورر باشْوِي غير بعد/الشاف اشْوِي متواجع
راجع لشْوِي ما فيه حــد / ألّا ترگــــــاب امّـاجع
 
ولنختم هذه “التبتلات” أو الشطحات في محراب ولد آدبّه بطلعه تجسد مذهبَ ولد آدبه الأدبي الصّرف، من حيث روعة الأسلوب، وثراء الرويّ، وبلاغة الحنين مع “الكياسة” في التعبير، حيث يأتي سهلا جدا وعميقا جدا، إلى درجة يصف مرابع هو في قمة الحنين إليها والتعلق بها أن مرآها “اصْدِيگ” وكأنها “اصْدِيگ” فقط، إنه الكناية بالأسهل عن الأعمق .. (لبتيت)
 
فيكْ ٱصْدِيگ إلى شفتْ ٱفْرِيگْ / لِمراحلْ وٱرْگبْتْ ٱمْن ٱظِّيگْ
ٱلْ لِفْريگ ؤطَيتْ ٱطَّوْلِيـــــــگْ / فَـــيه افْلِمْتَيْمــــَشْ تِتنــــَيْمَشْ
شَوفتْ لِمْتَـــــــيْمَشْ فيك ٱصْدِيگْ / يَلْعَگلْ ؤهِيَّ لِمْتَيْمَـــــــشْ
وٱمْتَيْمَشْ شَوْفتْ زادْ ٱفرِيـــــگْ / ٱصديگْ ٱفسهْوِتْ لِمْتَيْمـَشْ
 
إننا نحنّ إلى الأوطان بمجرد ذكر اسم محمد ولد آدبّه، كما نتذكر اسم ولد آدبه و”اغناه” عند كل حنين إلى الوطن أو تذكّره .. إن ولد آدبه مدرسة في الحنين والنسيب والرقّة والعواطف والصدق، إنه شاعر بمعنى الشعور والسبك والأسلوب، ومدرسة فنية وأدبية خاصة جدا … إنه امحمد ولد آدبّه فعلا !
 
 
بقلم / محمد الامين ولد سيدي مولود

اترك تعليقاً