جمهورية “وانطير” لبيع المدارس والسفارات!

إذا ظلت الأمور تدار في بلادنا بهذا الأسلوب التجاري الجشع، فلا تستغربوا غدا أن تلتقوا بالسيد وزير الاقتصاد والمالية وهو يتجول في الأسواق، ويحمل على ظهره مكبر صوت، ويهتف بأعلى صوته : لدينا مدارس وسفارات ووزارات للبيع ..عروضنا مغرية، فلا تفتكم الفرصة!

شيء كهذا قد يحصل، ولا تستغربوه إن حصل، خاصة وبعد أن اجتمع في هذه البلاد رجلان هما من أكثر خلق الله إبداعا في التحصيل، وأقصد هنا فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز ومعالي الوزير المختار ولد أنجاي.

وربما تكون “الحاسية التجارية” القوية لدى الرئيس محمد ولد عبد العزيز هي التي جعلته يكتشف ـ وبشكل مبكر ـ القدرات والإمكانيات الهائلة التي يتمتع بها السيد المختار ولد أنجاي في مجال التحصيل، وقديما قالت العرب بأن الطيور على أشكالها تقع.

لقد اكتشف الرئيس ببصيرته التحصيلية وبحاسته التجارية المواهب والقدرات التي يتمتع بها السيد المختار انجاي في التحصيل، ولذلك فقد سارع إلى تعيينه مديرا للضرائب، ولقد استطاع هذا الشاب الموهوب في فنون التحصيل خلال توليه لإدارة الضرائب أن يجمع من الأموال ما لم يكن يخطر ببال الرئيس، ولا يهم هنا أن تذكروننا بالمقولة التي تقول بأن المزيد من الضريبة يؤدي إلى موت الضريبة، فالمهم في جمهورية “وانطير” هو أن تجمع الأموال الطائلة، وليمت القطاع الخاص من بعد ذلك أو ليحيا، فحياته أو موته ليست بالأمر المهم عند قادة جمهورية “وانطير”. وبعد أن جمع مدير الضرائب ما جمع من الأموال كافأه الرئيس على ذلك وجمع له بين الوزارتين، وذلك بعد أن قضى وطرا ومن وزارة المالية. وكافأه أيضا بأن وشحه في الذكرى الخامسة والخمسين للاستقلال الوطني، وكان بذلك هو أول وزير يتم توشيحه في العهد الحالي أثناء تأديته لمهامه الوزارية، وسيذكر التاريخ أيضا لهذا الوزير بأنه كان هو أول وزير مالية يضيف لقاموس بيانات مجلس الوزراء جملة جديدة لم تكن معروفة من قبله، وهي الجملة التي تقول : ” وقدم وزير المالية بيانا حول البيع بالمزاد العلني لمساحات كانت تأوي مدارس مسحوبة من الخريطة المدرسية”، فهذه الجملة ربما تنافس مستقبلا الجملتين المعهودتين في بيانات مجلس الوزراء : “وقدم وزير الداخلية واللامركزية بيانا عن الحالة في الداخل،.وقدم وزير الشؤون الخارجية والتعاون بيانا عن الوضع الدولي”.

لقد تحولت كل الأملاك العامة في جمهورية “وانطير” إلى سلع معروضة للبيع، فبيعت المدارس، وبيعت “بلوكات”، وبيع جزء من الملعب الأولمبي، وبيع جزء من مدرسة الشرطة، وبيع فندق “مركير” (مرحبا سابقا)، وبيعت الساحة المجاورة لهذا الفندق، وبيع مبنى ثكنة الموسيقى العسكرية، وبيع جزء من “ساحة اللنكات” في مقاطعة عرفات، وبيعت عقارات وأملاك عامة في نواذيبو وروصو وفي مدن أخرى.

تباعُ المدارس في قلب العاصمة نواكشوط وذلك بحجة أنها لم تعد صالحة للدراسة، ولكن يبقى السؤال، حتى وإن صدقنا بأنها لم تعد صالحة للدراسة، ألم يكن الأولى ترميم هذه المدارس؟ ألم يكن من الأفضل إن كانت حقا لا تصلح للدراسة أن يتم تحوليها إلى ساحات عامة في عاصمة تختنق أو يتم تحويلها إلى إدارات عامة، خاصة وأن الكثير من الوزارات والمؤسسات العامة تنفق أمولا طائلة في كل عام على الإيجار من عند خواص؟

إن نفس الحجج الضعيفة التي تم تقديمها لتبرير بيع مدارس في قلب العاصمة، هي نفس الحجج التي تقديمها اليوم لتبرير بيع سكن السفير الموريتاني في وانشطن. فمن المعلوم بأن المدارس القديمة في العاصمة نواكشوط والسفارات في قلب عواصم الدولة الأجنبية تبقى لها قيمتها المعنوية ورمزيتها التي يجب أن لا يفرط فيها، هذا فضلا عن قيمتها الاقتصادية، ولذلك فإن بيعها يعد جريمة نكراء.

إن ما ستنفقه خزينة الدولة في السنوات القادمة على إيجار سكن للسفير الموريتاني في واشنطن كان يكفي جزء قليل منه لترميم سكن السفير الذي يوجد في موقع استراتيجي من قلب العاصمة واشنطن، وإذا كانت الدولة قد أفلست وأصبحت عاجزة عن ترميم سكن السفير فإن الجالية هناك قد أعلنت عن استعدادها للمساهمة في ترميمه، وهناك من الجالية من تقدم بمقترح هام في هذا المجال، حيث طلب من الحكومة بأن تأخذ قرضا من بنك أمريكي لترميم مبنى سكن السفير، على أن تجعل من المبالغ التي كانت ستدفعها مستقبلا لإيجار سكن للسفير، أن تجعل منها أقساطا لتسديد القرض الذي تم تخصيصه لترميم سكن السفير، وبذلك تكون قد حافظت على هذا العقار الثمين الذي يقع في منطقة راقية من قلب العاصمة واشنطن.

كان يمكننا أن نتفهم بيع مدرسة في قلب العاصمة نواكشوط، أو بيع سفارة في قلب عاصمة أجنبية، كان بإمكاننا أن نتفهم ذلك لو أن الدولة أعلنت بلغة فصيحة وصريحة عن إفلاسها، أما أن تتم عمليات البيع في عهد يُقال لنا فيه بالغدو والآصال بأن خزائن البنك المركزي ملآى بالعملات الصعبة، فإن ذلك مما لا يمكن تفهمه.

ولعلكم تذكرون بأن السلطة الحاكمة كانت قد حصلت على موارد غير مسبوقة بفعل ارتفاع سعر الحديد والذهب خلال السنوات الأولى من جمهورية “وانطير” ، ومع ذلك فإن تلك الموارد لم تترك أي أثر إيجابي في الواقع المعيشي للمواطن، والغريب في الأمر أن تلك الإيرادات قد صاحبها ارتفاع كبير في المديونية، وأصبح كاهل كل موريتاني مثقلا بالديون، وصاحب ذلك وهذا مما يزيد الأمور غرابة نهب أموال طائلة من الشعب الموريتاني من خلال الاستمرار في بيع البنزين بأسعار عالية، وذلك على الرغم من تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمة، والغريب أكثر أن كل تلك الأمور صاحبها جشع ضريبي غير مسبوق فأصبح المواطن يدفع المال للدولة في كل حين، يدفعه كضرائب، ويتساوى في ذلك الغني والفقير، ويدفعه عندما يفكر في الحصول على أي وثيقة مدنية، ويدفعه عندما يفكر حتى في التنقيب عن الذهب، ولعلكم تتذكرون الأموال الطائلة التي جمعها الوزير من خلال بيع رخص التنقيب.

هذه الأموال الطائلة التي جمعت على حساب المواطن الموريتاني المغلوب على أمره قد صاحبتها سياسة تقشفية رهيبة، ويكفي أن نعلم بأن وزارة الثقافة قد أصدرت في الأيام الماضية تعميما طالبت فيه بضرورة ترشيد الأوراق، واستخدام وجهي الورقة عند كتابة التقارير الطويلة، أما وزارة التعليم فإنها قد حرمت ـ ولأول مرة ـ المتفوقين في عدد من الشعب من المنحة، كما أن هذه الوزارة قد رفضت اكتتاب العقدويين، وهو ما جعل الكثير من المؤسسات التعليمية تعاني من نقص شديد في المعلمين والأساتذة، وهو نقص يبدو أنه سيستمر على طول العام الدراسي.

إن ما يحدث في جمهورية “وانطير” لا يمكن تفسيره، ولا يخضع لأي منطق، فبأي منطق تباع المدارس والسفارات، وبأي منطق تفرض سياسة تقشفية، وبأي منطق تتضاعف الديون على الدولة، بأي منطق يحدث كل ذلك في سنوات تضاعفت فيها موارد الدولة بسبب ارتفاع الحديد من قبل أن ينخفض سعره من جديد، وتضاعفت فيها الموارد المتحصلة من الضرائب، وتضاعفت فيها الأرباح المتحققة من بيع البنزين بأسعار مرتفعة رغم انخفاضه في الأسواق العالمية؟

فأين ذهبت كل هذه الأموال؟

حفظ الله موريتانيا..

محمد الأمين ولد الفاضل

elvadel@gmail.com

اترك تعليقاً