أهم الأحداث السيرية التي وقعت في شهر رمضان
شهر رمضان هو أحد الشهور القمرية المعروفة، وهو تاسع شهور السنة الهجرية، ولشهر رمضان مكانة عظيمة في نفوس المسلمين، فهو شهر البركة والرحمة والمغفرة والعتق من النار، كما أن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر إحدى ليالي هذا الشهر المبارك، وقد شهد شهر رمضان على مر العصور أحداثا هامة كثيرة، وسنذكر في هذه السطور أهم الأحداث التي وقعت في هذا الشهر خلال عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنها:
بدء نزول الوحي
ففي شهر رمضان من السنة الثالثة عشرة قبل الهجرة النبوية، كانت بداية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أول ما بدئ به الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، وقد حبب الله إليه الخلاء، فدأب على الخروج إلى غار حراء والاختلاء فيه للتعبد كثيرا، وبينما هو هناك في إحدى خلواته للتعبد، وقد بلغ أربعين سنة، إذ جاءه جبريل فقال: اقرأ، قال ما أنا بقارئ، حتى كررها جبريل ثلاثا والرسول صلى الله عليه وسلم يجيبه نفس الجواب، وكان جبريل يغطه كلما أجابه بهذا الجواب، ثم قال جبريل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5).
ثم رجع صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: “زملوني زملوني” فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فأخبر خديجة الخبر، وقال: “لقد خشيت على نفسي” فقالت: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به خديجة حتى جاءت به ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان تنصر في الجاهلية، فلما أخبراه الخبر قال: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أومخرجي هم؟” قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
وللعالم الجليل محمذن فال ولد متالي رحمه الله تعالى:
وجاءه جبريل رأس الأربعين
فاستقرأ الهاديَ جبريلُ الأمين
فقال ما أنا بقارئ فضم
أحمد هكذا ثلاثا أي ضم
فقال (باسم ربك الذي خلق
خلق) ذا (الإنسان) جل (من علق)
فجا بها يرجف ذا شجون
لأهله فقال زملوني
لأن ذا خالف عادة البشر
فأخبرت خديجة بذا الخبر
ورقة وكان قد تنصرا
وعندما سمع ذاك أخبرا
بأنه الناموس آتي موسى
يا ليتني فيها وقيت البوسا
وفاة أمنا خديجة بنت خويلد
وفي شهر رمضان من السنة العاشرة بعد البعثة، توفيت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية، وكانت خديجة رضي الله عنها، أول من آمن بالله ورسوله، وكان صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئا يكرهه من الرد عليه، فيرجع إليها إلا ثبتته، وكانت تهون عليه أمر الناس، وكانت أم جميع ولده صلى الله عليه وسلم غير إبراهيم.
وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشر خديجة، رضي الله عنها، ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، وفيه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: خير نسائها خديجة بنت خويلد، وخير نسائها مريم بنت عمران، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتي بهدية قال: اذهبوا إلى بيت فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة، ولا يمكن إحصاء مناقب أمنا خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
وتم دفن خديجة رضي الله عنها بالحجون، وكانت وفاتها شقت على النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة وأنها كانت بعد وفاة عمه أبي طالب بثلاثة أيام، ويقول بعض أهل السير إن النبي صلى الله عليه وسلم سمى عام وفاة خديجة وأبي طالب عام الحزن، وإلى ذلك أشار العالم الجليل الشيخ محمد الحسن ولد أحمد الخديم، بقوله:
موت خديجة بنونٍ معْ أبي
طالب العم فأحزن النبي
تشريع الآذان
وفي شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة النبوية، شرع الآذان للصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هم بطريقة يحصل بها إعلام الناس لحضور الصلاة، فجاءت عدة آراء من صحابته الكرام، رضي الله عنهم، لكنه لم يطمئن لواحد منها، إذ لم يكن في تلك الآراء جديد، وكان صلى الله عليه وسلم، يريد جديدا يختص به المسلمون دون غيرهم، وكان من بين الحضور الصحابي الجليل؛ عبد الله بن زيد بن ثعلبة الخزرجي،
فانصرف – رضي الله عنه مهتما – لما رأى من هم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نام رأى الآذان كما هو، وقص رؤياه الآذان، على النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحسنه، وأمر عبد الله أن يلقنه بلال بن رباح، رضي الله عنه، لأنه أندى صوتا، ففعل عبد الله رضي الله عنه، فكان الآذان للصلاة كما جاء في رؤياه.
وشهد عبد الله بن زيد العقبة وبدرا وسائر المشاهد، وقد جاء العالم الجليل الشيخ محمد المامي بن البخاري، في نظمه لأهل بدر، باسم عبد الله هذا واسم أبيه ونسبه إلى الخزرج وشهوده العقبة ورؤياه الأذان، في بيت واحد، فقال:
وعابد الله بن زيد العقبي
رائي الأذان الخزرجي النسب
سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر
وفي شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة النبوية، كانت سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر، وحاصل ذلك أن المسلمين كانوا ذاقوا قبل الهجرة من مكة صنوف الظلم من قريش، الذين بالغوا في إيذائهم بالتعذيب والحصار والتهجير وحتى بالقتل، وسلب المال، فجاء أول رد من المهاجرين في أول رمضان بعد الهجرة، حيث بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد الملطب إلى سيف البحر في ثلاثين من المهاجرين، لاعتراض عير لقريش، يقودها أشد أهل مكة على المسلمين؛ ألا وهو أبو جهل بن هشام.
فانطلق حمزة وأصحابه حتى التقوا بأبي جهل في 300 راكب، ولم يقتتل الفريقان، إذ حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وهو أحد سادات العرب، وكان موادعا لكلا الفريقين (المسلمين وقريش) فنجا أبو جهل بالعير، ورجع حمزة وأصحابه إلى المدينة دون أن يلقوا أذى.
وللعالم الجليل گراي ولد أحمد يوره رحمه الله، ناظما أحداث هذه السرية، وقد أجاد:
وهذه الأولى من السرايا
بعثها المبعوث للبرايا
في رمضان أول السنينا
من هجرة بأمرها عنينا
بعث صنوه من الرضاعه
وعمه ما أروج البضاعه
حمزة قطب الشهدا وعقدا
لواءها لمن سناه اتقدا
وهو كناز بن الحصين بأبي
مرثد يُكْنى ذلك البر الأبي
وهو ونجله حليفا حمزة
نالا بذاك الحلف أعلى العزة
والغنويان من أهل بدر
سناهما يسطع مثل البدر
وسار حمزة إمام الشهدا
من للهدى وللجهاد مهدا
على ثلاثين من المهاجرين
لعير فرعون إمام الفاجرين
حتى التقوا معْهم بسيف البحر
فلم يقع بينهمُ من نحر
لولا ابن عمرو الجهني مجد
لوجدوا كثرتهم لا تجدي
لأنه بينهمُ قد حجزا
فأنجز الله به ما أنجزا
غزوة بدر الكبرى
وفي شهر رمضان من ثاني أعوام الهجرة النبوية، كانت معركة بدر الكبرى، وحاصل ذلك أن قريشا ـ وحتى بعد أن هاجر المسلمون ـ استمرت في إيذائهم ونهبت ممتلكاتهم وصادرت أموالهم، وقد بلغ بهم الأمر أن صاروا يعتدون على المسلمين في المدينة، فقد جاءت غزوة بدر الكبرى بعد إغارة كرز بن جابر القرشي الفهري على أسراح المدينة ونهبها، وخروج الرسول صلى الله عليه وسلم في جمع من أصحابه يطلبون كرزا وإفلاته منهم.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم، رام أن يرد على هذا الفعل، لرفع معنويات المسلمين وإظهار المنعة أمام قريش وباقي قبائل الهرب، فخرج صلى الله عليه وسلم في مائة وخمسين رجلا لاعتراض عير لقريش ذاهبة من مكة نحو الشام، تحت قيادة أبي سفيان بن حرب، ولكن هذه العير فاتت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بعد أن بلغوا العشيرة، ليؤوبوا إلى المدينة.
وبعد حوالي شهرين جاءت عيون المدينة بأن هذه العير في طريقها عائدة من الشام نحو مكة، وهناك بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعد لاعتراضها من جديد، فخرج في نحو 315 رجلا، وكان لديهم 70 بعيرا فكان كل ثلاثة يعتقبون على بعير.
علم قائد العير أبو سفيان بن حرب، بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم في طلب العير، فغير طريقه وأرسل إلى قريش أن انفروا للدفاع عن عيركم، فخرجت قريش في نحو ألف مقاتل، وهي بكامل عدتها، فاستطاع أبو سفيان أن ينجو بالعير.
فلما تحقق قائد العير من نجاتها، بعث إلى قريش يطلب منهم الرجوع، وقد رأى رأيه بعض الأكابر من أهل النفير، إلا أن حنق أبي جهل على الإسلام ونفوذ كلمته حالا دون رجوع قريش، والأخذ برأي أبي سفيان وغيره.
علم النبي صلى الله عليه وسلم بإفلات العير وخروج النفير نحوهم، ولم يكن أمامه إلا أمران؛ فإما أن يرجع إلى المدينة وفيه انتصار لقريش وتصغير من شأن المسلمين في أعين القبائل العربية المجاورة للمدينة وغيرها، وإما أن يمضي قدما للقاء جيش قريش ذي العدد والعدة، بجيش قليل لم يكن على استعداد للقتال لأنهم إنما خرجوا لاعتراض عير عدد رجالها أقل من ثلثهم، وقد وصف العالم الجليل أحمد البدوي رحمه الله، حال هذا الجيش في نظم الغزوات حال هذا الجيش بقوله:
ولم يكونوا أوعبوا للحرب
إذ ما غزوا لغير نهب الركب
وليس عندهم من السيوف
غير ثمان للعدى حتوف
ولا من الخيل سوى اثنتين
وقد كفتهم أهبة التمكين
هذا بالإضافة إلى أن ثلاثة أرباع هذا الجيش القليل هم من الأنصار، الذين لم يبايعوه على القتال خارج المدينة وإنما بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم كما تنص على ذلك بنود بيعة العقبة.
وهنا عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسة استشارة عاجلة حول الموضوع، فتكلم بعض المهاجرين وأعلنوا دعمهم للموقف الداعي للقاء قريش، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يريد رأي الأنصار الذين قدمنا أنهم لم يبايعوه على القتال خارج المدينة، ولذلك لم يكتف بآراء المهاجرين، بل كرر قوله أشيروا علي، وهنا انبرى الأنصاري الأوسي، سعد بن معاذ قائلا: كأنك تعنينا يا رسول الله، ثم أكد وقوفهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم مهما يكن الأمر، وحماسهم للقاء أعدائه، فشكر له النبي قولته.
ومنهم من يقول إن صاحب هذه المقولة هو الأنصاري الخزرجي سعد بن عبادة، وقد جمع القرطبي بين القولين، بكون المقولة صدرت من كلا السعدين، وهو ما أشار إليه العالم الجليل والقاضي محمذن بن محنض بابه في قرة العينين، بقوله:
فنوهنْ بقول سعد أحرى
إنك لو خضت بنا ذا البحرا
وهو سعد بن معاذ عند جل
رواة الاخبار فحبذا الرجل
أو هو سعد بن عبادة الفتى
وفي صحيح مسلم ذاك أتى
والقرطبي بين ذين جمعا
بكونه صدر من ذين معا
ثم انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى نزلوا أقرب ماء لهم من مياه بدر، فسأله الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلكه الله فلا رأي لأحد فيه، أم هو الرأي والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والمكيدة، فقال الحباب: بل الرأي أن ننزل أدنى ماء للعدو ونغور غيره، فنشرب ولا يشربون، فشكر له الرسول ذلك، وعمل برأيه.
بُنِي للنبي صلى الله عليه وسلم عريش مشرف على ساحة المعركة ليشرف منه على تسيير شؤونها، ثم بدأ يسوي صفوف جيشه ويوزع عليهم المهام في طريقة جديدة لم تألفها العرب في حروبها، وأثناء تسويته صلى الله عليه وسلم للصفوف، تقدم الصحابي سواد بن غزية البلوي حليف بني النجار من صفه، فمسه صلى الله عليه وسلم في كشحه، فكان ما ساقه العالم السيري أحمد البدوي في نظم الغزوات بقوله:
وابن غزية سواد استنتلا
من صفه فرام أن يعتدلا
نبينا فمسه في كشحه
وقال إذ آلم مس قدحه
أوجعتني نخسا فأعطني القود
وجد في أن كان باشر الجسد
وحين سأل النبي صلى الله عليه وسلم، سوادا عن الذي حمله على هذا، أجاب بما ساقه لنا العالم السيري محمذن ولد محنض باب، في قرة العينين، حين قال:
وعندما فعل ذاك سأله
طه عن الذي عليه حمله
فقال قد رأيت ما رأيت
والموتَ أيقنت لذا نويت
بذاك كون اللمس للمختار
آخرَ عهدي بهذي الدار
فنال دعوة من الأمي
يا حبذا سواد من بلي
كانت بداية المعركة حين أقسم الأسود بن عبد الأسد ليشربن من الحوض أو ليهدمنه، فقام إليه حمزة بن عبد المطلب فقتله، وهنا انبرى ثلاثة فرسان من قريش يطلبون المبارزة، وهم: عتبة بن ربيعة وابنه الوليد وأخوه شيبة، فقام لشيبة حمزة بن عبد المطلب، ولعتبة عبيدة بن الحارث وللوليد علي بن أبي طالب، فقتل حمزة وعلي مبارزيهما وذففا على عتبة الذي اختلفت الضربتان بينه وبين عبيدة.
ثم هجم على المسلمين جيش قريش بعد هذه البداية التي لم تكن لترفع من معنوياته، وقد لقيه المسلمون بشجاعة وحماس منقطعي النظير، ونزلت الملائكة مددا لهم، فما هو إلا وقت يسير حتى تحقق النصر الذي وعد الله نبيه، وبدأت هزيمة قريش فمنحت المسلمين أكتافها يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا، فقتل من قريش يومئذ 70 رجلا وأسر مثلها، ورجع المسلمون بالنصر والأسرى والغنائم.
ومن الدروس التي تستخلص من هذه المعركة أنها كانت فاصلة في تاريخ الإسلام، ولهذا سماها سبحانه وتعالى يوم الفرقان، كما تجلت فيها قوة إيمان أصحابه وتضحيتهم، فقد حمل الأنصار أرواحهم على أكفهم في هذه المعركة، مع أنهم لم يلتزموا للرسول صلى الله عليه وسلم بالقتال معه خارج المدينة، وإنما يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وفق ما تنص عليه بنود بيعة العقبة، كما أن المهاجرين واجهوا إخوتهم وآباءهم وأقرب أقاربهم في هذه المعركة، كما ازداد بعد هذه المعركة رجحان كفة الإسلام، فدخل بعدها الكثيرون في الإسلام وأخفى كثيرون عداءهم له خوفا وطمعا.
ومن هذه الدروس كذلك أهمية الأخذ بالأسباب، فقد أرسل صلوات الله وسلامه عليه من يتتبع له خبر القافلة، مع الإقبال على الله والتضرع له، فقد أكثر من الدعاء حتى سقط رداؤه، ومنها أخذ القائد بنصيب من الشدائد التي يلاقي الجند، حيث كان يعتقب في الطريق مع آخرَين على بعير، ومنها تطبيق مبدأ الشورى، فقد استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه، وعمل بإشارة الحباب، كما تقدم، ومنها محاسبة القائد وقبوله لها، كما حدث مع سواد بن غزية، وغير ذلك من الدروس التي لا يسمح المقام باستقصائها.
سرية أبي بكر إلى وادي القرى
وفي شهر رمضان من سادس أعوام الهجرة النبوية كانت سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى وادي القرى، وحاصل هذه السرية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث حِبه زيد بن حارثة في سرية تتألف من ثلاثة عشر رجلا إلى منطقة وادي القرى يستطلعون أخبار الأعداء، فبينما هم في وادي القرى إذ هجم عليهم جمع من قبيلة فزارة، فاستشهد الجميع إلا زيدا وثلاثة معه، ثم تمالأ هؤلاء القوم من بني فزارة على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهزوا عددا من فرسانهم للقيام بتلك العملية، فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم سرية من عشرين رجلا، وعلى رأسها أبوبكر الصديق، فهجم أبو بكر وأصحابه على جموع فزارة بوادي القرى، وأحسنوا تأديبهم، فقد قتلوا منهم وأسروا وغنموا الغنائم، أما قصة مقتل فاطمة بنت ربيعة بن بدر المكناة بأم قرفة الفزارية، الواردة في المصادر السيرية، والمتداولة بكثرة عند أعداء الإسلام؛ فقد أتى عن أهل الحديث أنها لا تصح سندا منكرة متنا.
وقد نظم العالم الجليل گراي ولد أحمد يوره منثور ما تقدم من أخبار هذه السرية، بقوله في نظم السرايا:
وذهب العتيق ثاني اثنين
بأمر طه سيد الكونين
وهو إلى وادي القرى يسير
إن العسير عنده يسير
يريد بطنا من فزارة تمالؤوا (م)
على اغتيال من قد احتمى
منهم ومن سواهمُ بالعصمه
سبحان من وقاه كل وصمه
وإذ عليهم جيشنا أغاروا
بغلس عمهم الصغار
سرية غالب بن عبد الله إلى الميفعة
وفي شهر رمضان من السنة السابعة للهجرة كانت سرية غالب بن عبد الله إلى بني ثعلبة وبني بالميفعة، وهي إحدى السرايا التي ترمي إلى إظهار المنعة أمام القبائل العربية المعادية للإسلام، وقاد غالب في هذه السرية 130 رجلا، فهجموا على العدو فكان لهم النصر.
وفي هذه السرية كانت حادثة قتل أسامة بن زيد لمرداس بن نهيك، بعد أن نطق الشهادتين، وذلك أن مرداسا هذا، قتل عددا من الصحابة وأثناء المعركة علاه أسامة بالسيف فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فرآها أسامة حيلة للنجاة فقتله، فلما عادوا إلى المدينة أنب النبي صلى أسامة ولامه على قتل الرجل وقد نطق الشهادتين، فقال أسامة إنما قالها متعوذا من السيف، فقال صلى الله عليه وسلم: هلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب، أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله، قال أسامة: فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أسلم إلا يومئذ.
وللعالم الجليل غالي ولد المختار فال رحمه الله، ناظما أحداث هذه السرية بإيجاز غير مخل:
ثمت خالدا إلى ميفعة
إلى بني عبد بني ثعلبة
فساق أنعما وشاء وقتل
منهم رجالا وبالاموال قفل
وقيل إن ابن نهيك الحرقي
قتله فيها أسامة التقي
بعد التشهد فلامه النبي
حتى تمنى الكفر في الماضي الأبي
وقيل بل أسامة هو الذي
كان أميرا وسيأتي ذكر ذي
فتح مكة
وفي شهر رمضان من ثامنة سني الهجرة النبوية، كانت غزوة فتح مكة، وكان سبب هذه الغزوة إخلال قريش بأحد بنود صلح الحديبية الذي تم توقيعه بينهم وبين المسلمين، وهو البند القاضي بدخول من شاء من القبائل في حلف محمد صلى الله عليه وسلم، ومن شاء في حلف قريش، وهو ما يترتب عليه عدم اعتداء أي من الفريقين على من دخل في حلف الآخر، فكانت خزاعة ممن دخل في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، بينما دخل غرماؤها بنو بكر في حلف قريش.
ثم لاح لبني بكر أن يحاولوا إدراك ثأر لهم من خزاعة كانوا انشغلوا عنه منذ ظهور الإسلام، فلما حصل صلح الحديبية، وما ترتب عنه من الهدنة، وشعور خزاعة بالأمان، وبالتالي عدم استعدادها للحرب، انتهزت بكر الفرصة، وبيتت خزاعة فاقتتل الفريقان وهزمت خزاعة حتى لجأت إلى الحرم، وكانت قريش أعانت حلفاءها بني بكر بالسلاح، وبرجال قاتلوا معهم خفية.
ثم إن عمرو بن سالم وبديل بن ورقاء الخزاعيين انطلقا إلى المدينة مستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنشد عمرو أرجوزته المشهورة، والتي منها:
إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا
وقتلونا ركعا وسجدا
فانصر هداك الله نصرا أيدا
وادع عباد الله يأتوا مددا
فقال صلى الله عليه وسلم: لا نصرت إن لم أنصركم.
وقد ندمت قريش على إخلالها بالصلح حين دعمت بني بكر، فانطلق أبو سفيان يؤم المدينة، لإصلاح ما أفسدته قريش بدعمها بكرا، حتى قدم المدينة، فدخل على بنته أم المؤمنين رملة، فدار بينهما الحوار الذي نقله لنا العالم الجليل محمذن ولد محنض بابه في نظمه قرة العينين في غزوات سيد الكونين، بأسلوبه الشيق، فقال:
لبنته رملة زوج الصفوة
أم حبيبة أتى فطوت
عنه الفراش قال هل رغبت
بي عنه أو عني به يا بنتي
قالت فراش المصطفى لا يجلس
عليه مثلك فأنت نجس
قال لقد أصاب بنتي شر
بعدي فقالت بل هداني البر
فأنت يا أبت سيد قريش
ولم يكن يعرف في عقلك طيش
على عبادة الحجارة مقيم
ومعرض عند دين ربك الكريم
ثم حاول أبو سفيان محاولات كثيرة، وبذل جهودا جهيدة لإعادة المياه إلى مجاريها، لكن جميع تلك الجهود باءت بالفشل، حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يستعد لغزو مكة وقد انتهج أسلوب التعمية وحذر من إفشاء أمره، وفيه مشروعية التعمية للمصلحة، كما أن في مباغتة قريش قبل استعدادهم للقتال، حقنا لدمائهم، ومعلوم حرص الإسلام على عدم إراقة الدماء.
ولكن الصحابي حاطب بن أبي بلتعة أرسل إلى قريش كتابا يخبرهم فيه بما يعتزم الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي جاءه جبريل بالخبر – وهنا تتجلى آية من آيات نبوءته – فأرسل صلى الله عليه وسلم في أثر المرأة من ينتزعون منها الكتاب، فأنكرت أن يكون معها كتاب، فهددوها بتجريدها إن هي لم تدفع لهم الكتاب، ففعلت، ومنه أخذ العلماء مشروعية تجريد المرأة إن طلبته خدمة المصلحة العامة، ثم تم العفو عن حاطب بعد اعتذاره وتوبته، وهو ما يستفاد منه استحباب إقالة العثرات، خاصة في شأن الأفاضل، فحاطب صحابي شهد بدرا وهاجر عن أهله وماله في سبيل الله.
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف مقاتل إلى مكة ولما نزل بالقرب منها وحل الظلام أمر كل فرد من أفراد الجيش بأن يوقد نارا، ليرى العدو كثرة المسلمين، ويستسلموا دون إراقة دماء.
وعبأ النبي صلى الله عليه وسلم الجيش، ووزعه إلى كتائب لدخول مكة، وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فبلغ ضرار بن الخطاب أن سعدا كان يقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدته:
يا نبي الهدى إليك لجا
حي قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأرض(م)
وعاداهم إله السماء
والتقت حلقتا البطان على القوم(م)
ونودوا بالصيلم الصلعاء
إن سعدا يريد قاصمة الظهر(م)
بأهل الحجون والبطحاء
خزرجي لو يستطيع من الغيظ(م)
رمانا بالنسر والعواء
وغر الصدر لا يهم بشيء
غير سفك الدما وسبي النساء
قد تلظى على البطاح وجاءت
عنه هند بالسوءة السوآء
إذ ينادي بذل حي قريش
وابن حرب بذا من الشهداء
فلئن أقحم اللواء ونادى
يا حماة اللواء أهل اللواء
ثم ثابت إليه من بهم الخزرج(م)
والأوس أنجم الهيجاء
لتكونن بالبطاح قريش
فقعة القاع في أكف الإماء
فانهينه فإنه أسد الأسد(م)
لدى الغاب والغ في الدماء
إنه مطرق يريد لنا الأمر(م)
سكوتا كالحية الصماء
ولم تلق كتائب المسلمين مقاومة، إلا ما كان من جماعة يقودها عكرمة بن أبي جهل، كانت تعرضت لكتبية يقودها خالد بن الوليد بالخندمة على أطراف مكة، فهزم عكرمة وأصحابه، وقتل منهم اثنا عشر رجلا.
ثم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وأعلن أن من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وفي هذا سعي منه صلى الله عليه وسلم للحد من إراقة الدماء، فإن من لم يُعط فرصة للنجاة لا بد أنه سوف يقاتل، وفيه أيضا إنزال الناس منازلهم فإن أبا سفيان كان من سادات قريش الذين يحتلون مكانة عالية بينهم، وهكذا تم فتح مكة بأقل تكلفة، رغم أهمية هذا الحدث وقوة قريش ورغم ما كانت تتصف به من شدة ثباتها على مبادئها ومعتقداتها، ودفاعها عنها، ومن شدة عدائها للدعوة الإسلامية.
ويعتبر فتح مكة من أهم الأحداث في تاريخ الإسلام، ولهذا سموه الفتح الأعظم وفتح الفتوح، وذلك لأن جميع القبائل العربية كانت تبعا لقريش، فهم سادة العرب، كما أن مكة تحتضن البيت الحرام الذي يلقى تعظيما وإجلالا من جميع العرب، كما كانت مكة أيضا عاصمة للوثنية والشرك، فكان الجميع ينتظر ما يحصل بين قريش ومحمد صلى الله عليه وسلم.
هدم صنم العُزى
وفي شهر رمضان من ثامن أعوام الهجرة النبوية، كان هدم العزى، وحاصله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد لهدم العزى، وهي صنم لقريش وسائر بني كنانة، وقد خرج خالد رضي الله عنه وهو يقود ثلاثين فارسا، حتى انتهى إلى العزى فهدمها،
ثم رجع خالد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره الخبر، فسأله: هل رأيت شيئا؟ قال: لا، قال: فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها، فرجع وهو متغيظ، وجرد سيفه، فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة ناشرة الرأس، وأخذ السادن يصيح بها، فضربها خالد بسيفه حتى صارت نصفين.
وعاد خالد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم تلك العزى، وقد أيست أن تعبد ببلادكم أبدا.
وقد نظم العالم الجليل غالي ولد المختار فال رحمه الله منثور ما قدمنا عن هذه السرية، في نظمه تبصرة المحتاج إلى بعوث صاحب المعراج، وذلك بقوله:
ثمت خالدا لهدم العزى
هدمها حين الرشاد عزا
من بعد فتح مكة وردا
ليهدم الأساس منها جدا
فخرجت منها عجوز فحمل
بالسيف خالد عليها فقتل
وقال إذ أُخبِر تلك العزى
قد أيست تعبد أو تعزا
هدم صنم سواع
وفي شهر رمضان من ثامنة سني الهجرة النبوية، كان هدم صنم سواع، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، بعث عمرو بن العاص إلى صنم هذيل(سواع) ليهدمه، فانطلق عمرو حتى وصل إلى إلى سواع وعنده السادن، فجرى بينهما ما نقله لنا العالم الجليل گراي ولد أحمد يوره رحمه الله، في نظم السرايا، حين قال:
قال له السادن ما تريد
قال سواعا هدمها أريد
فقال لا تقدر قال لمَ ذا
فقال تُمنع فقال أنت ذا
ما زلت في ضلالك القديم
وصير الصنم كالرميم
فأسلم السادن حين شاهدا
ذاك ويهتدي من الله هدى