لربما يفضل المرء نهش الأفاعي السامة ،و مسّ الشياطين الصماء، و لدغ العقارب الجهنمية، وقضم الأسود الضارية…علي التوجه إلي مركز الإستطباب بالنعمة لتلقي العلاج.ّ.!
غريب هو هذا المرفق العمومي الذي ترتاده ساكنة سبع مقاطعات و أربعة مراكز إدارية، و غريبة هي أنواع المعاملات التي يتلقاها المرضى….و الأغرب من ذا كله هو تواطؤ حكومة محاربة الفساد و سكوتها المخزي علي الفساد غير المسبوق الذي ينخر جسم هذا المرفق الحيــوي.و إلا، فكيف نوائم بيــــن خطابات الوزير الأول و وزير مــاليته المتوعدة بأشد العقوبة علي الفســاد و المفسدين و المتطاوليــن علي مرافق الدولة و الحقوق و الحريات و التكسب غير المشـــروع..؟ كيف نوائم بيـــــن الرعاية الخاصة التي يوليها الرئيس لصحة “فقرائه في عموم ربوع البلاد و الحوض الشرقي خاصة ، حيث برهن علي ذلك خلال أكثر من زيارة اطلاع لمركز الإستطباب بالنعمة، و من خــلال سهره علي تجهيز المركز بأحدث المعــدات و اللوازم الطبية و تحفيــــــز الأطقم العاملة به؟
أم إن حكومتنا الموقرة وقعت عقــد “لا مســــاس” مع مركز الإستطباب تضمنت بعض بنوده عدم مساءلة القيمين عليــــه عمـــا يقترفوه من جــرائم ضــــد مــرضى الحوض الشــرقي، بل ضــد الإنسان في مقاطعات الحوض السبع؟ أليــــس إطلاق اليــد لسلطات المركز ،رغم شكاوى المواطنين التي بلغ بعضها حــدّ التحكيم أمام محكمة الولاية ( القضايا المرفوعة أمام المحكمة تتعلق بالضمان الصحي)، أليس يكفي كأدلة واضحة للعيان لإهمال الدولة لهذا المركز و تسيبه ألعوبة في أيادي بعض المتكسبيــــن،و تحفيـــــز المزيد من الفساد و احتضان المفسدين؟
فكم مريضا قضى نحبه أو ينتظر نتيجة غياب التدخل الطبي اللازم؟ كم حبلى لفظت أنفاسها الأخيرة و جنينها ؟ كم من مســــنّ يعاني ارتفاع الضغط استجاب لنداء بيـــت الغسل نتيجـــة ارتفاع درجات الحرارة في غرف الحجز التي كان من المفترض أن تستجيب لمعايير الحجز الطبي؟ كم من مريض يشكو ضيق التنفس لقي حتفه نتيجــة افتقار المركز لغاز الأكسجيــن؟ كم من طفل و رضيع،ومريض مصاب بالبشم أجريت لهم عمليات جراحية بترت أعضاء، و قلصت أمعــــاء..لم يكونوا أبدا يحتاجون إلي حط الرحال في غرفة الجراحة…
…مركــز الإهمال حيث قضي أحمــد ، و محمد، و عائشة، و جميلـــــة، و يرب، و عبد الله، و تـــوري ، و مريم ، و اسماو، وبــاب، وسيد أحمــد فال ….و غيرهم ممـــن طالتهم أيدي الغــدر و الخيانة و التـــلاعب…
قضوا لأن وزيــــر الصحـــة تشبث بمنصبه….
قضوا لأن وزير المــــالية يحســن فقط عــدّ السنيــــن و الحســـاب…
قضوا لأن وزيرنــــا الأول لا يريد قدوم صرير حجب الثقة من الشـــرق…
قضوا لأن الرئيس ينصت لتزييف الحقائق و قلب فحــــوى التقارير…
قضوا لأن الحكومة الرومانية استقالت بعد حريق في ملهى ليلي و حكومتنا لا يهمها إن أفني مواطنوها عن آخرهم و بقيت هي هي…
قضوا لأن المواطنين لا يحسون و لا يتألمون و لا يحسنون قول “لا”….
قضوا لأن المركز كغيـــره من مرا فقنـــا “العمومية- الخصوصيــة”(ليس كلها)…ما عاد سوى محلــــة للبيع بالجزافي و المــزاد العلني…
… قضي الطفل البرئ قبل ذبح عقيقته لآن أبويه الفقيرين لم يدفعا فاتورة قرص الباراستامول وجرعة الفيتامين أ، وجرعة الكزاز، و سوء التغذية و فقر الــدم،و جفاف البــدن…
اتصـل بي أحدهم فأخبرني أنه يصاحب مريضا و أنهم لم يجدوا في المركز أي طبيب يكلموه..!
و أخبرني آخر عبر الهاتف و من قاعة الحالات المستعجلة أنه يصاحب والدته المريضة و أنهم لم يجدوا غيــر ممرض متدرب لا يحســـن الوخز بالإبــرة..!
و فشــــا بين كل النــاس – الحاضر منهم و البادي – أن بعض أطبائنا يمتنع عن معاينة المرضى إن لم يكن في عياداتهم الخــاصة. بل إن بعضهم، و حسب الأخبار المتواتر عليها ، يكشر عن أنيابه في وجوه المرضى إن هم جاءوه في المركــز ، و يلاقيهم بالترحيب و القسمات العريضة إن هم أتوه للعلاج في عيادته الخصوصية.و الأمرّ من ذلك أن كثير من أدوية صيدلية المركز يتم استنزافه لعرضه و بيعه في العيادات الخاصة..!
عنـــدما تصبح مرافقنا الخدميــــــة محـــلات تجارية همها الأوحد التحصيل و الكسب رغما عن أوضاع المواطنين، وجب أن نقول إن هذه المرافق أشبه ما تكون أسواقا للنخاسة….
عندما يفقد الطبيب حسّ الرأفة و الحنان بمرضاه يصبــح ثورا متوحشـــا تنفر منه القلوب و يزداد المرضى مرضا تدهورا عند رؤيتــه و سماع كلامــــه.
عندما يتجرد الطبيب من أمانة رسالته الإنسانية الخالدة، و عندما يتنكــر لآدميتــه و ينسى أنه صمام آمان بني جلدته و الضامن الأساس لسلامة و سعادة و رفــاه و استقرار مجتمعة و بلده…عندها يصبح سرطـــانا خطـــرا يجب استئصال شأفتــــه و جبّ أذرعـــه الهلاميــة.
لاحظت ممرضة صينية في مستشفى كيفه الجهوي تحــنّ علي مرضاها، تداويهم، تمازحهم، تماريهم، تبتاع لهم الأدوية من خالص مالها، تزورهم في منازلهم لتطمئن علي صحتهم و تتفقد أحوالهم، تتكفل بجانب من مؤنهم إن كانوا تحت الرعاية الطبية… ممرضة صينيــــة..! تصوروا كم تبعد عنـــا الصين منبت ربع سكان العالم. ممرضة تختلف عنا لغة، وثقافة، وعقيدة،وكرما،..و حتي اسما ولقبا و سمتا و لون بشرة ..!
لمــاذا لا يكون أطباؤنا أكثر رحمة من هذه الصينية المغرّبـة عن دفء بيت ذويها و أحبتها ؟ لمــاذا لا يكون أطباؤنا أكثر اعتزازا بمواطنيهم من أجنبية لا تزن بــارة في وطنها الأصلي؟ لماذا ندنس أعراضنا و ندوس علي إنسانيتنا، و نخون أماناتنا،و ننسف أخلاقياتنا ، و نسفــه ذواتنا في الوقت الذي يحافظ علي حملها و الاعتزاز بها من يفترض به أن يكون أقل منـــا رأفة ورحمة و رهبانيـــة؟ من يفترض أن يكونوا دوننا إدراكا لمعاني المعروف و القسط ، و الخير و ألإحسان ، و المحبة و البر ، و التقوى و حرمة النفس البشرية…
في الوقت الذي أسطر فيه هذه الخطرات، ناداني أحد المواطنين عبر الهاتف، أن طفليــه يتعرضان لنوبـــة حمى خطيرة ، و أنهم في مركز الإستطباب حيث لم يعبأ بهم أحـــــد.لا طبيب… لا أخصائي…لا إدارة… فقط ممرضون شباب و شابات لا يقدرون تحريك ساكن خوفا من الاستفسار،و الاقتطاع المالي و الطرد الفوري و الكلمات النابيــة…
الرحماء الوحيدون في مركز الإستطباب هي الحرارة الحارقة، و القمامات المتراكمة، و الحشرات الطائرة ،و الروائح الكريهة،و الأسرة الغاصة،و ظلال شجيرات السـدر القزمة العطشى … هو جهاز الفحص بالأشعة الكسول، و قنينة غاز أكسجين التنفس الفارغة، و المكيفات المغبرة- المتهالكة…التي أضربت عن العمل إلي حيـــن تحسين المعاملة مع المرضى…و هو ذاك البواب الذي يصرخ في وجه كل مريض أراد تخطي البوابة إلي داخل المركز.
لو كان البواب نصوحا لقال للمرضى و رفقائهم “ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا…”
للأسف نحن لا نعيش مع هؤلاء لنعرف هذه المعلومات ولكننا نعيش مع بشر أعطاهم الله قلوب و عقول و أعيـــن وألسنة لن تضمــر مهما أريد لها من التستر علي الكذــّب… و النفاق…و الغش…و الخيانة… و سرقة المواطن ؟! لا عقوبـــة ، و لا مساءلة، و لا حسبة، و لا رقيـــــــب…
في المجر استقــال عدد من الأطبـــاء عندما لم توفر الإمكانات الطبية اللازمــــة لمعالجة مرضاهم و إسكات حمــلات الانتقاد ضد أدائهم المهني.و في الصـومال احتج الأطباء و الممرضون عنــدما رفعت الحكومة الأسعار علي المواد الطبيـــة مما يحرم الفئات الهشة من الخدمات الصحية. و في هايتي اعتصم أطباء البلد أمام قبة البرلمان للمطالبة بمساءلة الحكومة عندما قلصت ميزانية الصحة العمومية و رفعت يدها عن الرعاية الصحية للفئات الهشــة…
فأين أطباء مركزنا الصحي من الغضب لمواطنيهم علي شاكلة زملائهم في المجر، و الصومال،و الجبل الأسود،و هايتي..!؟
لا يعقـــل أن يتواتر سكان الحوض علي أن أطباءهم فقدوا الحياء وفقدوا الرحمـــة وفقدوا كل صفات الإنسانية و أفقــــدوا مواطنيهم السعــــادة و الراحة و الاطمئنان؟!
كما لا يعقل أن تنزل الرحمة رحالها في الأدغال، في الأراضي الموحلة، في مواطن الزلازل و البراكين و الصواعق، في الحرائق و الأعاصير المدمرة و أن يكون مــركز الإستطباب بالنعمة المكان الأخير الذي ينفر منه الرحمـــــة.