الصحة بين إهمال المسؤولين وتعتيم العاملين / محمد الأمين سيدي بوبكر‎

يعد قطاع الصحة من أهم القطاعات وأكثرها حيوية وصلة بحياة المواطنين اليومية ما جعله الأكثر أهمية عند الحكومات والمسؤولين في الدول التي تحترم نفسها وتهتم بحياة مواطنيها، لكن في موريتانيا ليس بذالك القدر من الأهمية وبالرغم من كثرة الأموال التي تضخ فيه سنويا إن لم نقل يوميا ولا يزال يئن تحت المشاكل والأزمات وعاجزا عن تلبية حاجيات المواطنين الصحية، إذ يتوافدون وبشكل شبه يومي علي تونس والسنغال وغيرهم من عواصم العالم بغية العلاج، ليس بسبب قلة الكوادر البشرية ولا انعدام الخبرات والتخصصات الطبية في البلد بل بسبب الفساد والإهمال  واللا مبالاة وافتقار المستشفيات الوطنية إلي المعدات الطبية والتقنيات الحديثة، بالإضافة إلي انتشار الأدوية الزورة، وغير الفعالة، وبالإضافة للأوضاع المزرية لعمال الصحة، إذ يخوضون منذ شهر إضرابا تدريجيا وصل الآن مرحلة الإضراب المفتوح مذ أسبوع إحتجاجا علي سوء ظروف العمل وقلة الرواتب وضعف الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين، ولم تتجاوب وزارة الصحة حتي الآن مع مطالبهم المشروعة والتي تعتبر مطالبا وطنية شعبية أكثر منها مطالب نقابية عمالية، ومن أبرز المطالب التي ينادي بها الأطباء الموريتانيون المضربون عن العمل:
1. مجانية الحالات المستعجلة: وهو مطلب وطني شعبي بامتياز إذ يفقد الكثيرون حياتهم أمام أبواب المستشفيات وعلي أعين الأطباء وهم في انتظار جلب الأدوية والمعدات من خارج المستشفيات وفي أغلب الأحيان يكون المرضي لايملكون ما يقتنون به الأدوية والمعدات الضرورية اللازمة لإنقاذ حياتهم فضلا عن الحجز وما إلي ذالك، والطبيب بين فكي كماشة سخط المواطن من جهة ومن الجهة الأخري تعذيب الضمير علي مريض يترجل أمام أعينه وهو ملم بخطورة وضعه ولايمتلك من المعدات ولا الوسائل والصلاحيات ماينقذ به حياته.
2. تعميم التأمين الصحي علي جميع المواطنين: وهو أيضا مطلب شعبي لتعميم الفائدة علي المواطنين وتمكين المستشفيات من القيام بأدوارها دون سمسرة المرضي أو التسول لجهات أخري، كما سيعود عليها أيضا بتعويضات معتبرة تمكنها من الإستمرارية في عملها وتعينها علي تحسين خدماتها.
3. مراجعة الرواتب والتكوين المستمر: وهو أيضا مطلب وطني شعبي حتي وإن كان البعض خاطئا يري أنه ليس كذالك لأن الطبيب إذا كان منهمكا في التفكير في طريقة عيشه ومنشغلا في البحث عن قوت يومه لن يتمكن من أداء مهامه حتي وإن قام بها شكليا، وأما التكوين فالطب ليس كغيره لأنه يتجدد ويتطور بشكل يومي ومن لم يتتبع تلك التطورات سيتجاوزه القطار ويصبح منتهي الصلاحية وغير قادر علي ممرارسة مهنة الطب.
4. تأمين أدوية ومواد مخبرية موثوقة المصدر: تكون ذات جودة عالية، كما يطالبون بممارسة رقابة صارمة وإنفاذ القانون علي المخالفين، لأن المرضي والأطباء علي حد سواء يعانون من ضعف فعالية الأدوية وتهالك وردائة الأجهزة المخبرية، وهو ما يؤدي إلي ضعف التشخيصات والكشفات الطبية ويرغم المواطنين علي اللجوء للخارج بعثا عن العلاج أو ابتعاث وصفاتهم الطبية خارج الوطن.
5. إشراك الأطباء الممارسين في اقتناء الأجهزة: أي إشراك الأطباء الميدانيين في اقتناء الأجهزة والمستلزمات الضرورية لأنهم أكثر إلماما بالواقع وأدري بالمعدات الطبية التي هم بحاجة إليها أكثر من غيرها وفي النهاية هم من سيستخدمونها، ولتجنب اتخاذها ذريعة لاختلاس المال العام واقتناء الأجهزة المستعملة من المركات العالمية ذات الجودة الرديئة، فقد أكد لنا أحد الأخصائيين علي هامش لقاء الأطباء مع المدونين أنه قد تم تحويله إلي أحد المستشفيات في العاصمة نواكشوط فوجده لايتوفر علي المعدات التي يتطلبها عمله فأبلغ مدير المستشفي بالأمر فأمره بتوجيه طلب إلي وزارة الحصة وبعد حوارات طويلة ومواعيد كثيرة تمت الموافقة علي اقتناء الجهاز وأحيلت صفقته إلي الشرك المتخصصة في استراد الأدوية لكن الدكتور اشترط إشراكه في عملية شراء الجهاز لأنه هو من سيستخدمه ولذالك سيحدد النوع الذي يريد فرفضت شركة الأدوية وبعد إصراره علي الأمر تمت إستشارته في نوع الجهاز واختار الجهاز الذي يريده وحذرهم من إستيراد غيره لأنه لن يستخدمه في حال شرائهم له فما كان منهم إلا أن اشتروا النوع الذي حذرهم منه بالتحديد وأتوه به ليوقع علي تسلمه له فرقض التوقيع ووقع المدير بدله فوجد نفسه أمام الأمر الواقع فاستخدم الجهاز ولم يقض سوي شهران وتعطل ولايزال علي تلك الحالة حتي اليوم، ويبدو أن الجهات المعنية تتخذ من شراء الأجهزة والمعدات الطبية ذريعة لإختلاس المال العام ولاتهما جودتها ولانوعها ولاعمرها بل تختارها أن تتعطل في اليوم الموالي للتخذها ذريعة لسرقة أخري،
وهي كلها مطالب وطنية شعبية تعني كل مواطن موريتاني يشعر بالمسؤولية إتجاه وطنه وليست مطالب الأطباء وحدهم ويجب أن تكون متبناة من كافة أطراف الشعب الموريتاني، ويعتبر قطاع الصحة في موريتانيا من أكثر القطاعات هشاشة وفشلا مع أنه من أهمها، إذ يمخر الفساد عباب جسم المنظومة الصحة الموريتانية بعيدا عن الأضواء بسب تضليل الإعلام الرسمي ومغالطته الرأي العام الوطني، بالإضافة إلي تعتيم الأطباء وابتعادهم عن الإعلام وعدم تفاعلهم مع الرأي العام، فلا يعرف الكثيرون شيئًا عن المشاكل والأزمان التي تعاني منها المنظومة الصحة الموريتانية بل يحملون الأطباء في كثير من الأحيان المسؤولية عن فشل المنظومة الصحية، مع أنهم هم ضحاياه أيضا،
فمن المضحكات المبكيات التي شاع أمرها بين الناس ولم أكن أحب ذكرها لعدم تأكدي من صحتها “أن مواطنا موريتانيا قام بكشف طبي لصدره في أحد المستشفيات الوطنية فتبين من خلال الكشف أن عنكبوتا تعيش في صدره فذهب إلي إحدي دول الجوار لإجراء عملية جراحية لإقتلاعها فمن حسن حظه قاموا بإجراء كشف طبي آخر له فتبين أن حالته الصحية بخير وعافية وأن العنكبوت في الجهاز” ولم أتأكد من صحة القصة لكن باح لنا بعض الأطباء المضربين بغيض من فيض المعاناة التي مروا بها والمواقف المحرجة التي وقعوا ويقعون فيها في اللقاء الذي نظموه مع الدونين، تُثبت واقعية القصة وإمكانية حدوثها،
ومن المضحكات المبكيات المميتات التي أطلعنا عليها أحد الأطباء أنه ذات مرة كان مرابطا في الحالات المستعجلة إذ جاءه غلام يتيم في غيبوبة رفقة جدة له عجوز ولم يستطع أمرها بشراء المعدات والأدوية الضرورية اللازمة له ولم يجد ما يقتني له به الدواء فاضطر هو ورفاقه للسَّرقة علي العجوز لشراء الدواء لحفيدها، كما قال آخر إنه أُدخل عليه واحد من صحايا حوادث السير ولم يجد ماينقذ به حياته فبدأ يبحث في جيبه لعله يجد معه نقودا يشتري له بها الدواء فلم يجد سوي هاتف يرن فرد عليه فإذا بهم أهله في أقصي الشرق الموريتاني يسألون عن مكانه وهو بين الموت والحياة في أحد مستشفات العاصمة نواكشوط لدي طبيب في حيرة من أمره ليس لديه مايقتني له به دواء لإنقاذ حياته، كما أكد آخر أنهم ذات مرة جاءهم السفير التركي في زيارة له لمركز الإستطباب الوطني فأغمي عليه وسقط أرضا فلم يجدوا جهازا لإجراء كشف طبي له لانعدام تور الجهاز المطلوب في مركز الإستطباب الوطني، كما أكدوا لنا أن الكثيرين يفقدون حياتهم أمام أعينهم في انتظار الحجز واقتناء الأدوية والمعدات وهم لايستطيعون فعل أي شيئ، وأن بعضهم يضطر للخروج من غرفة العمليات بعد فتح المريض ليُعير آلة يحتاجها من عند زميل له أو من مستشفي آخر، كما أيضا يضطرون أحيانا كثيرة لتأجيل عمليات جراحية بسبب الأنقطاعات المتكررة للماء والكهرباء عنهم وهم في غرف العمليات، وهذه المعاناة كلها وأكثر يحتفظون بها أسرا عندهم ويخجلون حتي من ذكرها لغيرهم،
وتجدر الإشارة إلي أن الأطباء الموريتانين العامين والخاصين رغم تضحياتهم بأنفسهم وتعرضهم للمخاطر والغروف المزرية التي يعملون فيها لا يتقاضون سوي رواتب ضئيلة قدرها 150 ألف أوقية من العملة القديمة للأول و 220 ألف أوقية للأخير من العملة القديمة طبعا، وهو ما لايعدل حتي نصف راتب عضوي المجلس الأعلي للتدخين الذي يتقاضي 450 ألف أوقية من العملة القديمة دائما، وجل الأطباء الموريتانيين أكملوا دراساتهم في الخارج علي حساباتهم الخاصة وآثروا العودة للوطن لخدمة مجتمعهم والنهوض ببلدهم رغم أن ليس فيه ما يغري بالعودة إليه ولا البقاء فيه، ضاربين عرض الحائط بقول الشاعر:
      وفي الأرض منأى للكريم عن الأذي ***** وفيها لمن خاف القلا متحول
ولسان حالهم يقول:
             بلادي وإن جارت علي عزيزة  *****  وأهلي وإن ضنوا علي كرام

اترك تعليقاً