راص أموره (سيد أحمد ولد باب)

فى بداية أغشت 1998 كانت سيارة “ابيجو 404″ المتهالكة تعبر بنا المنطقة الواقعة بين مركز بلدية أطويل ” أخظوره”  ومدينة “تمبدغه” عاصمة المقاطعة الأقدم بالحوض الشرقى فى رحلة روتينية بين ” أحسي هندو” و”أقراج تمبدغه”، ضمن حراك ألفناه كل خريف، قبل أن تغتال العاصمة وأحوالها أحلام جيل كانت مهنة الصحافة آخر مايفكر فيه.
كان إلى جانبى فى الرحلة والدى أطال الله عمره ( محمدو ولد باب) ، ومراهق من جمهورية مالى يدعى “الحسن” حملته الأقدار هو الآخر إلى العمل كسائق لدى الأسرة بمنطقة ” أكدرنيت”  بعد أن تعرفنا عليه هو فى منطقة “أدباي” بمدينة تمبدغه مع نفر من قومه بأحد منازل الطين المتهالكة.
كانت زخات المطر تهمس من وقت لآخر فى أذن السائق المراهق ” لقد أزف وقت الخروج من المنطقة الصعبة فى فصل الخريف (القاعة) ، فمطر آخر قبل العبور يعنى المبيت بما يحمله الأمر من مخاطر وألم..

فجأة قطع الوالد حديثه العادى، مستذكرا بيت الشاعر الشعبى وابن الإمارة الراحل  محمد المختار ولد اعل ولد محمد محمود المعروف محليا ب “ولد تارمب” ضمن أسلوب يجمع بين الوعظ والتعليم :
من لزم الحزم إلى أنزاد  وأكبر وأتفاحش وأوور
ذوك التجال وذاك زاد لمظلم راص أمور

قاطعته قبل إكمال “الكاف” المتداول بشكل كبير بين أهل الفن لا السياسية وترديد دعائه المعهود ” الله لا حشمتن عند لقاك مفناك أدني !! ” .. قائلا «أزمان المختار كان أمنين؟” .
كنت أستحضر على البديهة قطعة شعرية للأمير ذاته لكن تداولها ظل محصورا بين كبار أهل الصنعة على خجل بحكم أعراف المجتمع القاسية :
شفت أفيم ألا أصبيب تبسام تكشار
بين البدع أو بوعليبه  ف أزمان المختار

أمر الوالد السائق بالاستدارة غربا قائلا ” نوخظ أعليه ظرك “.
كانت فرصة نادرة لزيارة أغلب المناطق التى عسكرت بها الحلة منذ تأسيسها، وفرصة لاستذكار مجد حمته الأسنة والرماح رغم قوة المخالفين وتنوع مصادر الخطر، ونافحت عنه ألسنة الشعراء من كل القبائل والأعراق، وتفاخرت به أحلاف يحاول بعض منتسبيها اليوم طمس ماتبقى من مجد أسرة ظلت من أبرز الأسر داخل الحوض وأكثرها تأثيرا فى صناعة القرار لأكثر من 130 سنة، قبل أن يغتال حلم المستمسكين بحبل الود، وتدار الأمور بمنطق لم يأخذ أصحابه فى الحسبان ما آلت إليه الأمور بعد اغتيال “ولد عياد” أو عام “طيرت أغراب الخلعه عن الحوظ” أيام الأمير المؤسس أحمد محمود ولد المختار ولد المحيميد (المتوفى 1884 بالحوض)  ..
كان مشهد المنطقة وقد خلت بالكامل من أربابها مصدر قلق كبير لمن عايش فى الواقع الإفتراضى أغلب تفاصيلها بفعل حكايات المسنين وأغانى الشعراء ، وكان مكان ” أموره” من أكثر المواقع التى تأثرت بها، لقد أندرست أغلب معالم المنطقة، وأستباح “الرعاة” ساحة الحلة، وتحولت الأمور إلى مشهد مختلط ومربك، بعدما  كانت القرارات فيها تأخذ تشاور وتنفذ دون روية ويتساوى أمامها الجميع، مهما كانت قساوة القرار وظلمه فى بعض الأحيان ..
أحن قاع إلى قافين .. وأجبرن لمه وأكتلناه
خالق بعد أل مارين .. أظحيك أمنين ماريناه !

لقد كنت أتلمس فى اللاوعي مكان ” أبديده” وأحاول رسم ملامح الحلة على أرض الواقع، مستعينا بما سجله أبناء المنطقة من وصف بالغ الدقة والجمال للأرض والحراك الثورى فيها، وماحوته “الأشوار” الشعبية من أسماء لامعة كانت لها مكانة فى نفوس أبناء الحلة وزائرها.
كنت أمكند للنرجاه .. وألقيتله عند أبديده
عند أبديه حد ألقاه .. ماتبق فيه أتمكنيد

كانت أمسية جميلة بالفعل، تداولنا فيها أشعار بعض رموز المنطقة كالفارس “أنجبان ولد المحيميد” و” محمد المختار ولد تارمب” و” العلامة محمد ولد أحماله الله (دباي) ومحمد الأمين ولد سيد أمحمد والشاعر مختارى ولد سيدى عالى والشاعر سيداتى ولد حمادى ، والسالك ولد الحاج ولد أحمد ديده ، أمسية قلصت فيها فارق السن وخرجت فيها عن الأعراف، معتمدا على أريحية الوالد وروح شاعرية كانت الجولة بالنسبة لها احياء موات عبثت به سنون الزمن القاسية …
غادرت المنطقة قبل الغروب بقليل والآلام حاضرة فى مخيلة عبثت بها مشاهد الحلة وقد أندثر ذكرها بشكل مؤسف، والآمال كبيرة فى استعادة المنطقة لدور تخطفته صروف الزمن، ونفض الغبار عن تراث هو فى النهاية ملك للجميع مهما بعدت الشقة اليوم بين الفاعلين فيها وقل النصير.
لقد غادرت الحلة أو ماتبقى من ذكريات علقت برأس شيخ مسن،  كما غادر ولد سيدى ولد الشيخ منطقة العين قبل نصف قرن من الزمن :
لاه نمش ما أعجلن .. مشيت حد أهجين
فأخلاق مزال رن .. لقس تحت اللين

سيد أحمد ولد باب/ مدير موقع زهرة شنقيط

اترك تعليقاً