ساستنا وكتابنا من المنظرين للجمهورية الثالثة…(3) / د.محمد المختار ديه الشنقيطي

ساستنا وكتابنا من المنظرين للجمهورية الثالثة تيه الحداثة وفقدان روح المقدس؟!!…(3)
ساستنا وكتابنا ومفكرينا من أدعياء الحداثة والبناء والتطور يجهلون مواطن الإبداع والعطاء في تراثنا ويسفهون ويبخسون دعاة القيم الإسلامية، ويسطحون في عملهم وتفكيرهم مفهوم الحداثة التي يدعون التشبث بانتهاجها والتبشير بقيمها، والحداثة هي مفهوم يأخذ اليوم مكانه المتقدم في حقل المفاهيم الغامضة حقا، فمفهوم الحداثة ودون شك

يعاني من غموض كبير حتى في بنية التفكير الغربي الذي أنجبه، وهو غموض تشتد حدته في ثقافتنا الإسلامية وعند مثقفينا العرب خاصة، فيأخذ مداه ليطرح نفسه كإشكالية فكرية هامة تتطلب بذل مزيد من الجهود العلمية والمناهج الاستقصائية الاستقرائية والفهم المتأني لتحديد مضامينه وتركيباته وحدوده، وغاياته و آلياته وأفكاره والمظاهر المعبرة عن حضوره.
وفي ظل التوظيف الساذج والشائع عند كتابنا وساستنا ومنظرينا لمفهوم الحداثة في العمل المجتمعي، حيث يختزلونه في الصيرورته الزمنية الراهنة، فيجري عندهم الحديث عن الزمن الحاضر، أو المرحلة الراهنة، أو العصر الحديث، أو المجتمع المعاصر، والحداثة عند أصحابها ومبدعيها من مفكري الغرب وباستثناء ثلة من العلمانيين الملا حدة هي: علاوة على بعدها الزمني، مفهوم فلسفي مركب قوامه سعي لا ينقطع للكشف عن ماهية الوجود، وبحث لا يتوقف أبدا عن إجابات تغطي مسألة القلق الوجودي وإشكاليات العصر التي تثقل على مقومات الوجود الإنساني، واكتشاف وابتكار الوسائل والمناهج والقوانين التي تضمن رقي الإنسان وسعادته وتمكينه وتطويعه لما ذلل الله وسخر له في هذا الوجود امتدادا وهضما للموروث الإنساني بكل إبداعاته وتجاربه وهاديات الوحي وشرائع السماء .
فمثلا يرى كل من كارل ماركس وإميل دوركهايم وماكس فيبر، أن الحداثة تجسد صورة نسق اجتماعي متكامل، وملامح نسق صناعي منظم وآمن، وكلاهما يقوم على أساس العقلانية في مختلف المستويات والاتجاهات، ويرى جيدن أنها تتمثل في نسق من الانقطاعات التاريخية عن المراحل السابقة حيث تهيمن التقاليد والعقائد ذات الطابع الشمولي الكنسي أي الدين المحرف.
فالحداثة عندهم إذن تتميز بأنماط وجود وحياة وعقائد مختلفة كليا عن تلك التي كانت سائدة في المراحل التقليدية حيث عرفت التغيرات التي شهدتها الحداثة في أنماط الممارسات التي كانت سائدة والابتكارات للحلول والحاجات بطابع التسارع والتنوع والشمول ولا سيما في مجال التكنولوجيا والمعرفة العلمية التكنولوجية، كما عرفت هذه المرحلة أيضا بتنامي الاتصالات الفعالة بين جوانب الحياة الإنسانية حيث شملت الأقاليم والمناطق المتباعدة في جغرافية الكون. وهذه هي المرحلة التي حدثت فيها تحولات جوهرية في عمق المؤسسات على مدى تنوعها.
وقد سمحت تلك التحولات والتغيرات الجوهرية في شروط الوجود للناس من السيطرة على مقدرات وجودهم وشروط حياتهم، والحداثيون هم من يقود خطى البحث وابتكار الحلول وإبداع الحاجات، ومواجهة ظلم أنظمة الماضي وانحرافات الحاضر ومواجهة كل أنظمة القهر والتخلف وأنماط وأشكال ممارسات الماضي، فالحداثة فكرة وثورة ضد التقاليد وفكرة مركزية العقل، والكاتب العربي جابر عصفور يعرف الحداثة “بأنها البحث المستمر للتعرف على أسرار الكون من خلال التعمق في اكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها وتطوير المعرفة بها، ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الإنسان من الأرض.
أما سياسيا واجتماعيا فالحداثة تعني الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرية، من الاستغلال إلى العدالة، ومن التبعية إلى الاستقلال ومن الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن سطوة القبيلة أو العائلة أو الطائفة إلى الدولة الحديثة، ومن الدولة التسلطية إلى الدولة الديموقراطية.
لا شك ولا ريب أن من بين ساستنا ومفكرينا وكتابنا من يعتقد ويفترض أن وظيفة الدين هي قيادة الحياة والتشريع الدائم، وأن صلاحيته لكل زمان ومكان تمكن معتنقيه دائما وأبدا من الحلول والإجابة عن كل سؤال، وأنه ينبغي فقط على أتباعه أن يسترجعوا ثقتهم بالدين ويرجعوا إلى نصوصه المقدسة، ويفصلوها عما علق بها من إضافات خاطئة وقراءات تحريفية، وهناك منهم من يعتقد ويفترض العكس، ويرى أن زمن الدين والتدين قد مضى وانقطعت مبرراته؟!
وفريق ثالث وهم أهل الإسلام السياسي يرى أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأن المقاصد العليا للدين تشريعاتها دائمة وثابتة، وأن أحكام الآليات والوسائل متجددة في القراءة والتنزيل متطورة في الوصول للغايات والأهداف.
ما يغيب دائما عن تفكير ونضالات منظري وقادة الحركة الوطنية ما بعد الاستقلال أن التقاطب الحاصل على سوء فهم الخصوصية الموريتانية وسوء توظيفها في الحياة السياسية مرجعه هو الانشقاقات الثقافية الحادة التي عانت  وتعاني منها الطبقة السياسية الثقافة السياسية غداة الاستقلال، حيث انقسم الفاعلون السياسيون في ما يمكن أن يسمى بالحركة الوطنية إلى ثلاث تيارات رئيسة:(الكادحين والقومين وأصحاب الفكر الإسلامي التقليدي)، الأمر الذي لم يسمح بظهور مفاهيم فكرية سياسية موحدة حول جملة المرجعيات القيمية والفكرية، وطبيعة النظام السياسي الصالح لبناء دولة عصرية لبلد متعدد المكونات العرقية والثقافية لا سابق عهد له بأنماط الدولة وآليات وقوانين الاجتماع وشروط التمدن والعمران .
والحاصل أن كل الشعارات والمقولات في أيدلوجيا الحركة الوطنية، والدعوة فيما بعد إلى مقولة الانتقال الديمقراطي ما هي إلا مظهر من مظاهر هذا الفشل، الذي تعبرت عنه أغلب تمزقات الفكر السياسي عند كل أجنحة الحركة الوطنية في الخمسين سنة الماضية، التي كانت تستند فيها في نضالها إلى أطروحات تقدمية حداثية في عمومها، وإن كان من عيوبها أنها لا تأخذ في الحساب والاعتبار حجم التقليد وقوت سيطرتها ووجودها في بلد من خصوصياته التفكك والطابع القبلي، يراد له أن تنشأ فيه وتأسس مفاهيم الدولة الحديثة، الشيء الذي جعل من تلك الشعارات والمفاهيم إحدى مفردات الصراع وليست حلا ولا جوابا نضاليا وسياسيا لمرحلة معينة؟!.
ولا شك ولا ريب أن التناقض والإهمال أو العجز والصدود الذي حصل ويحصل دائما عند أغلب ساستنا ومفكرينا عن بناء الثقة والجسور بين التخصصات الشرعية وتلك العلمية والمعرفية هو الذي أقام تلك الحواجز بين السياسيين المثقفين والفقهاء المجددين الأمر الذي جعل كلا منهم يعيش في جزر معرفية متعالية عن بعضها البعض محرومة من إمكانات الاستفادة من معارف ومناهج البعض الآخر، وقد ساهم ذلك الانفصام، والشقاق والاحتراب في ظهور أغلب المصائب المشاهدة والكوارث المعاشة في مجال الاجتماع والسياسة والعلوم والثقافة، الأمر الذي بدوره ساهم هو الآخر في تراجع الإبداع وعمق الشروخ الاجتماعية، وفسح المجال للمصائب الحضارية، وعطل أسباب النهوض والتنمية وحرمنا من مكاسب ومكتسبات النضال والحداثة في الثقافة والنهضة والعمران؟ .
والخطأ المنهجي لمقاصدي الذي ظل يقع فيه دائما أهل الإسلام السياسي من دعاة التجديد والبعث الإسلامي هو أنهم في غالب أحوالهم لا يتم تعاملهم مع النصوص القرآنية ولا الأحاديث النبوية إلا عبر وسائط من فهم سلف الأمة من آليات إنتاج عقول زمانية مرهونة لبيئاتها المختلفة المتنوعة تعددت فيها التوجهات، وبتعدد تلك الانتماءات لمناهج السلف الأمة تتعدد انتماءات الخلف الذين وجدوا أنفسهم داخل معارك لا مفر منها يحسبون أنها من وسائل تجديد الدين، وأنهم يخوضونها دفاعا عن الدين الحق الذي ينشدونه وترشدهم إليه مناهج السلف، ولكل سلفه، ولكل معاركه .
والفصل في المنهج  وعدم الخلط بين الوسائل والغايات حتى في أنواع الوحي مما هدى إليه الوحي، وحذر من تأثيرات ذلك الخلط الذي نحسه ونلمسه في مناهج أهل التجديد أو البعث الإسلامي، ومن تأمل مثلا حديث أبي سعيد الخدري:”استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فلم يأذن لنا”أخرجه الترميذي في سننه حديث رقم: 2665 باب كراهية كتابة العلم، وأيضا حديث:” لا تكتبوا عني ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه”رواه مسلم- الزهد والرقائق باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم /5326 وقد روى النووي في شرحه لصحيح مسلم أنه:”كان بين السلف من الصحابة اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم، ثم اجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف”.

اترك تعليقاً