مدينة كومبي صالح احدى المدن الموريتانية القديمة يعود تاريخ تأسيسها الى القرن الثالث الميلادي وتقع بولاية الحوض الشرقي ضمن الحيز الإداري لمقاطعة تنبدغه على بعد يناهز ستين كلم في الإتجاه الجنوبي وعلى مقربة من حدود جمهورية مالي.
وتعد مدينة كومبي صالح احدى المدن ذات التاريخ العريق في منطقة الصحراء الكبرى مثل أروان وتنبكتو في مالي ووأود آغسط و ولاته و وادان وتنيكي في موريتانيا التي عرفت ازدهارا كبيرا بفعل وجودها على طرق القوافل بين افريقيا ومدن المغرب العربي واختلطت فيها ثقافات مختلفة وتعاقبت على أديم ارضها حضارات عدة قبل انتصبح عاصمة امبراطورية غانه ذات القوة والنفوذ في مطلع القارن العاشر الميلاي.
وفي نهاية القرن الحادي عشر الميلادي اشتاحت الدولة المرابطية المنطقة ناشرة الدين الإسلامي واستولت على مدينة كومبي صالح فاعتنق الكثير من سكانها الدين الجديد وظلت بوتقة لتعايش الأديان والأعراق من قوميات مخلفة فتمكنت من لعب دور بارز في نشر الدين الإسلامي في القارة الفريقية خاصة الأقاليم المجاورة، قبل ان تحتلها مملكة اصوص في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي ويتخذها ملكهم سمارى كناته مركزا لإقامة جيوشه وقاعدة لإطلاق هجماته على اعدائه من المماليك المجاورة.
وتؤكد المصادر التاريخية ان مدينة كومبي صالح كانت سوقا رائجة للقوافل التجارية وموقعا حيويا لتبادل مختلف البضائع والسلع التجارية خصة مواد الذهب والملح والجلود والحبوب والجواهر مما جعلها مدينة مزدهرة في ذلك التاريخ كما لعبت دورا رياديا عبر فترات تاريخية متباينة.
ولكن سقوط مملكة غانا كان البداية الفعلية والمباشرة لتراجع المكانة والدور البارز الذي كانت تلعبه هذه المدينة في المنطقة مع ما تعرضت له من موجات جفاف متعاقبة..فلم تكن تستقطب القوافل التجارية كما كانت في الماضي، وبدأ سكانها في الهجرة فاصبحت عرضة للنهب والسلب وانهار الجزء الأكبر من معالمها التاريخية.
دارت السنين ومضت القرون..فطمرت المدينة تحت الأنقاض بعد هجرة السكان واصبحت عرضة لزحف الرمال عبر قرون من الزمن، لا احد يذكرها ولا احد يسمع عنها .. فغابت معالمها وآثارها وربما دفنت كنوز مما لا يخطر على بال بين طبقات الأرض بحكم عوامل التعرية وتراكم الرمال الى ان اكتشفها الفرنسيون خلال احتلالهم للمنطقة في بداية القرن العشرين لتصبح اليوم مركزا للحفريات وقبلة لعلماء الآثار من كل القارات مما اهلها لتكون مدينة جذب سياحي بإمتياز خاصة بعد تسجيلها على قائمة مواقع التراث العالمي.
لقد أقام السكان المحليون اليوم قرية كبيرة بجوار المدينة القديمة تيمنا واحياء للذكراها وربما تشبثا بهذا الإرث التاريخي الذي لايقدر بثمن، فقررت السلطات العمومية ان تكون عاصمة لبلدية ريفية وسط عشرات القرى والتجمعات السكانية وفي منطقة رعوية بامتياز وانكانت تعاني شحا في مياه الشرب.
ويقول رئيس قسم التاريخ والحضارة في جامعة العلوم الإسلامية في لعيون الدكتور محمد ولد سيد محمد ولد احمده الذي ترأس فريق بحث واستكشاف من الأساتذة والطلاب الى مدينة كمبي صالح ان مكتنزات مدينة كبي صالح ضاعت ونهبت عبر القرون واندثر الكثير من معالمها التاريخية والعمرانية وتوقفت فيها الحفريات والبحوث مذ حوالي اربعين سنة.
واضاف رئيس قسم التاريخ والحضارة خلال لقاء اجرته معه الوكالة الموريتانية للأنباء بخصوص ما توصل اليه فريقيه من نتائج بحث واستقصاء حول ما طبعه الزمن عبر مطباته التاريخية على هذه المدينة التاريخية.
” أهم ما خرجنا به من هذا البحث أن هذه المدينة الأثرية تزخر بالكثير من الآثار التي لا يمكن تقدير حجمها ونوعها، وتقصي سبلها والحديث عنها إلا بعد عملية تنقيب كبيرة و شاملة لأن المدينة مساحتها كبيرة وما هو ظاهر للعيان من الآثار والذي بدا شطر منه بعد آخر الحفريات التي قام بها الباحث الفرنسي روبير سنة 1976م[1] خير دليل على ذلك فقد أظهرت فيما رأينا جزء من وسط المدينة حيث توجد أطلال مسجد كبير –يبدو أنه- كان المسجد الجامع الذي تحدث عنه الرحالة ومؤرخوا الإسلام ومحرابه مازال قائما ويبدو أن مكان الإمام كان أسفل من مكان المصلين وتبلغ مساحة المسجد حوالي20في21م
وإلى جانب المسجد من الناحية الغربية يوجد السوق الذي يمر به شارع كبير تتقاطع معه طريقان أحدهما قادم من الشمال والآخر من الجنوب ويتجه نحو الشرق ليدخل بين المسجد وقصر الملك.
وقريبا من هذا المسجد يوجد بإزائه من الناحية الشمالية دار ملاصقة له لعلها دار القاضي أو الكاتب أو الإمام.
وشمال هذه الدار توجد سلسلة من الدور ويتجلى في بنائها النسق العمراني المغربي أو الأندلسي.
أما جنوب قصر الملك إلى الشرق قليلا فيوجد مقر آخر لا يقل عنه حجما ولا عظمة وربما يكون من قصور الملك أو أحد كبار معاونيه.
على طول الطريق الكبير الذي تحدثنا عنه آنفا والقادم من الغرب باتجاه الشرق والجنوب الشرقي توجد عدة عيون مائية تتوزع على طول الطريق الرابط بين غرب المدينة وشرقها مرورا بالسوق وقصر الملك”.
ويضيف رئيس قسم التاريخ والحضارة في جامعة لعيون الإسلامية ” تشتمل مدينة كومبي صالح ضمن آثارها المتنوعة مجموعة من الأبراج التي هي بمثابة قلاع حصينة مازال بعضها شامخا يتراءى للواقف عليه مسافات بعيدة وهذه الأبراج كما هو معروف جزء من التحصينات الدفاعية التي كانت الحضارات القديمة تركز عليها كوسيلة استيراتيجية للدفاع عن المدينة وما بداخلها من سكان وممتلكات.
هذا بالإضافة إلى عثورنا على بعض المقتنيات التي يعود بعضها إلى الحقبة الوثنية مثل رؤوس الحيات، وبعض حلي النساء إلى جانب بعض مخلفات وآثار الدولة الإسلامية مما يعني أن آثار العهد الوثني ظلت قائمة ولم تختف كما يروج البعض وإنما عدم الاهتمام بالبحث والتنقيب عنها، وتغليب فرضية تأثير الدولة الإسلامية على كل ما سلفها هو الذي غيّب هذه الآثار النادرة ونحن نعلم أن الإسلام لم يدخل إلى هذه المنطقة بل جميع المناطق التي كانت تنتحل غيره دفعة واحدة بل دخلها تدريجيا وكومبي صالح قصة أسلمتها معروفة.
توجد من الناحية الشرقية بعض المقابر التي يرجح أنها مقابر وثنية بدليل عظم أجسام أهلها ، وكذلك وفرة القدور بشكل لافت في هذه الناحية لأن الوثنيين كانوا يدفنون موتاهم في القدور مصحوبين بمتاعهم”.
ويضيف الدكتور محمد ولد سيد محمد ولد احمده:” بعد يوم شاق من الجولات الميدانية والبحث والتحري وإجراء المقابلات والمقارنات تمكنت البعثة من التقاط العديد من الصور واعداد تقارير عن هذه الرحلة، وخرجت بالتوصيات التالية:
-ضرورة إنشاء هيئة من طرف الدولة تتكون من علماء آثار وجيولوجيين ومؤرخين، وتعمل هذه الهيئة بكامل وقتها على إحياء تراث وآثار المدن القديمة وخاصة مدينة كومبي صالح التي تعد من أغنى هذه المدن آثارا وأكثرها تنوعا ومع ذلك أقلها حظا في العناية والاعتبار.
-ضرورة تزويد مدينة كومبي صالح بالماء ليتمكن الباحثون والزوار من القيام بمهامهم داخل هذه المناطق لأنها تعاني من شح كبير في المياه ونحن رأينا ذلك بأم أعيننا. .
– ضرورة القيام في القريب العاجل بندوة دولية حول مدينة كومبي صالح يتولى قسم التاريخ والحضارة بجامعة العلوم الإسلامية بلعيون تنسيقها والإشراف عليها.
تقرير: عبد الله الكوري