القبلية تتقدم… وتفوز!
من الطبيعي أن تتنافس الدولة والقبيلة على الإنسان، وأن تتراجع وتضعف إحداهما بالقدر الذي تزداد به قوة وهيمنة الأخرى. ولكنهما نقيضان لا يجتمعان.
وبما أن الدولة عندنا وليدة خِدْجٌ، وطارئة دخيلة؛ والقبيلة هي الأصل صاحبة الشأن والألفة… فإن التوازن بينهما مفقود وميزان القوة مائل لصالح القبيلة.
وقد عمل المؤسسون للدولة الموريتانية على إصلاح هذا الاختلال وجبر كسر الدولة بمحاولة تجريد القبيلة من سلطانها وإبعاد نفوذها وتأثيرها عن الشأن العام، وتقديم البديل الأفضل والأقسط منها للمواطنين.
إلا أنه مع سقوط الدولة ومرضها المبكر، بعد اختطاف العسكر للسلطة، استعادت القبيلة نفوذها وقوتها، وهزلت الدولة وضعف عودها الطري. لأن كل نظام انقلابي يحكمه فرد تعوزه الكفاءة، ويشعر بعدم الشرعية ويسكنه هاجس “السقوط”، يلجأ إلى القبيلة ويضحي من أجل ولائها واستغلالها ببعض مقومات وخصائص الدولة، بالتقرب والركون لشيوخ القبائل النافذين، ومثقفيها الانتهازيين؛ مما يثير غيرة وحمية القبائل الأخرى فتبالغ في الولاء والتزلف، والتنافس على قلب الرئيس!
فلا غرابة إذن أن نرى في كل مرة يُتهم فيها مسئول أو موظف بالفساد واختلاس المال العام والخيانة، مَن يهبون لنصرته وتبرئته والثناء عليه، من بين عشيرته وقبيلته؛ فيتلِّون العدالة على الجبين!!
لقد عمد العسكر غِبَّ استيلائهم بالقوة على الحكم سنة 1978، على قلب بساط الدولة بما عليه؛ باعتباره يمثل النظام “المخلوع”! فلم يميزوا بين ما كان لصالح الدولة ككيان وطني عام، وبين ما كان لصالح الرئيس الزائل، رغم التباين الواضح بينهما في ذلك الوقت.
وبما أن محاربة القبلية ونزع أكثر صلاحياتها لصالح الدولة، كانت من الثوابت البارزة في نظام ولد داداه، فقد أعاد إليها الانقلابيون الاعتبار والعافية؛ حتى إنهم أعادوا المسميات والمصطلحات القبلية لبعض المناطق الإدارية (الولايات)، كما كانت أيام الاستعمار…
لكن الأمر لم يقتصر على ذلك، بل لجأ معظم قادة الانقلابات إلى القبيلة لسد ثغرات “شرعية” وجودهم، وتأمين الحماية السياسية والأمنية لحكمهم، على حساب هيبة ونفوذ الدولة.
وبانتصاف فترة حكم ولد الطائع، ورفعه شعار الديمقراطية والليبرالية، تم حسم المعركة الصامتة بين الدولة والقبيلة، بانتصار هذه الأخيرة؛ وذلك عبر منهج مزدوج الاتجاه: تضمن من جهة استقالة الدولة من واجباتها الخدمية، عبر خصخصة مؤسساتها وإنهاء دعم أسعار ومراقبة المواد الأساسية، والتخلي عن الخدمات العامة؛ خاصة في مجالي التعليم والصحة…
أما الاتجاه الثاني، الذي اتخذ من “ديمقراطية الاستبداد” غطاءه، فكان ربط خدمات الدولة والاستفادة من ريعها ونفوذها بالولاء القبلي، الذي سُخرت له الهيئات والمجالس الانتخابية، وفُصِّلت هياكلها لخدمته وتيسيره.
وهذه “الخلطة السحرية” المتمثلة في صبغة النظام القبلي الفئوي بالألوان والألقاب الديمقراطية، وتوظيفه وتسخيره في بوتقة سياسية حزبية (حزب السلطة / الأغلبية / الموالاة…) أصبحت ممهدة ومجربة (مكنت ولد الطائع من المكوث أكثر من عشرين سنة وتجاوز هزات وتهديدات خطرة)، ولذلك يحافظ عليها النظام الحالي الذي هو الوريث “الشرعي” والمتبِع المُقتدِي بنظام ولد الطائع.
ولأن لكل تجربة عُمرا أو مجالا حياتيا، لا بد بعده من المراجعة و”التجديد” أو السقوط… فقد وصلت “السياسة القبلية” إلى أقصى مدى “الاحتشام”، فتَخَرق وطاؤها الوثير، وبدأت تخرج منه أسنة المسامير الحادة، وتفوح منه روائح التحلل الكريهة!
فأصبح تمجيد القبلية “مباشرة”، والاعتراف بها و”شرعنة” طبقيتها وتفاخرها العرقي، ورفع أنسابها وأحسابها و”أمجادها”… من الأمور الغالبة شيئا فشيئا؛ ولو من وراء أقنعة شفافة وعناوين علمية جذابة؛ ربما يندرج تحتها ما يتردد اليوم من “وعيد” بإعادة كتابة التاريخ… إلى آخر ما في ذلك من بعث الوقائع وإحياء الأزمنة والأمكنة القبلية…! ولأن الدولة والقبيلة، كما ذكرنا في المبتدأ، نقيضان لا بد أن تأخذ إحداهما من الأخرى، فإن تغيير ثوابت الدولة وهـزَّ الثقة في هيبتها من خلال العبث بتلك الثوابت الرمزية ـ مثلا ـ سيصب تلقائيا في صالح القبلية، حتما، بطريقة ما! وهذه مجرد أمثلة من وحي الآنِ، وليست كل شيء ولا أهم شيء في هذا المجال.
فهناك الأمثلة التقليدية الدائمة، والأهم؛ سواء على مستوى قمة الهرم حيث تلغى الكفاءة والأهلية من معايير التعيين في المراكز القيادية والوظائف التنفيذية… لتحل محلها المعايير القبلية الصرفة (في إطار “توازن” الولاء السياسي)، أو على مستوى الأمثلة الأدنى التي نراها يوميا في الممارسات الإدارية في “الدولة العميقة”؛ بل ونراها في الموظف الموقوف بالجرم المشهود، يخرج من “ذنوبه”، تجاه الدولة، كيوم ولدته أمه؛ فيعاد ـ رسميا ـ تعيينه واعتباره مكرما. كما نراها في الجندي الذي أفنى شبابه في الخدمة يسقط صريعا أثناء عمله في ثكنته، فيَستدعِي أصدقاؤه مَن يعرفون من أقاربه أو قبيلته للحضور ونقله بسيارة أجرة إلى المستشفى، ليموت هناك بهدوء؛ لأن رؤساءه لا يعرفونه على لوائح قبائلهم، ولا قبائل “رؤسائهم”!!
فالوسائل السياسية والإعلامية، والأقلام “الفكرية” ـ عَبْرَها ـ مكرسة لمدح الحاكم، وتربية الناس على حبه، والتعلق بمواهبه التي لا تحصى وآلائه التي لا تُستقصى!
وأما الإمكانيات المالية والاقتصادية للدولة فتتحكم فيها الزبونية، وتُوجه الأواصرُ القبلية مؤشرَها الحقيقي!
بينما ينخر المرض هياكل الدولة ويطفح جسمها الأجرب بالموظفين المحتالين والمسيرين الفاشلين والمسئولين الفاسدين… الذين تقدموا أو قُدموا على أسس المحسوبية والقرابة القبلية؛ ناهيك عن ما يبثه النظام التعليمي الفاسد من شهادات الغش ومؤهلات التزوير…
إن ولاء هؤلاء، بمن فيهم أصحاب الكفاءات العالية والنفوس الأبية، لا يمكن أن يكون لغير مراكز القوة التي “عينتهم” وتقف وراءهم في السراء والضراء؛ وهي اليوم ليست شيئا غير العشيرة والقبيلة!
وينسجم هذا مع فكرة الحكام المتعاقبين، التي تقول: ما دامت “الدولة” مشاكل واحتجاجات، وربما انقلابات عسكرية أو مدنية؛ و”القبلية” أمن وأمان وراحة واستقبالات شعبية حاشدة، ومدائح هستيرية وهدايا بالجملة… فلِمَ الشقاء من أجل “دولة” لا يريدها أحد؟!!
بقلم/ م. محفوظ ولد أحمد