وماذا بعد؟ / محمد محمود ولد بكار

يأتي الحديث عن التوريث إبان عملية إصلاح، لا تعي أهدافها، للحزب “الحاكم ” انتدب لها لفيفا من الوزراء في خضم خلط عام لأوراق البلد وهو يتعرض لعملية تغير ملامح قسرية توجت  بطبع عملة جديدة   باهظة الكلفة وغير مفهومة الدوافع.

لقد طبعت  مأمورية عزيز الجارية  تغيرات واسعة لا تحظى بتفاهم، وبعيدا عن أي احترام للالتزامات المشتركة، ودون اعتبار لأهمية التوافق بالنسبة لمواضيع أضحت جوهرية وجزءا من واقعنا اليومي منذ 58 سنة (عَـلم يـُظل عامة الناس ونشيد  درجوا على سماعه منذ الصغر على نحو تحرك معزوفته وجدان كل واحد، أو نسق دستوري  كون لديهم صورة نمطية ما عن فعالية نظامهم السياسي). لم يكن تغيير العلم والنشيد أو محو غرفة رصينة من البرلمان أو ليِّ عنق الدستور بهدف وطني صريح، ولا هو يلبي تطلعات  أو مطالب شعبية أو سياسية لأي أحد في البلد، وليس لرفع التحدي الذي لا يتزحزح منذ 1992 والمتعلق  “بكيفية  خلق نظام انتخابي فعال يسمح بمشاركة كافة الطيف الوطني في العملية السياسية ويقود إلى عملية تناوب مكتملة الظروف والشروط”، لكنه كان غلافا  للسيناريو “أ” الذي تم إسقاطه بضغوط من كل مكان. ليس الإغراق في التفاصيل ضروريا لكي نفهم أسباب تصميم عزيز بعد ذلك على  الخروج عن السياق، والقيام من جهة واحدة بفرض مواضيع غير مطروقة وليست جزءا من المشكلة ولا جزءا من الحل، بل جعلت من البلد مشتلة خلافات كبيرة، زيادة على جهوده القوية في شق الصف الوطني كهدف وستراتيجيةمنذ مقدمه، ولعلها الاستراتيجية الوحيدة المفهومة في تسيره للبلد. إن خروجه  عن السياق المطلبي العام للطبقة السياسية ـ وهو رئيس مودع بقوة الدستور ـ  ليس كما هو واضح أنه لم يملك أي رؤية حول جملة المبادئ المؤسسة  لنظام ديمقراطي يستوعب كل الضمانات والتناقضات الأساسية، أو لم يطلع على  تاريخ التحديات الكبيرة التي واجهتها النشأة  وواكبت الاستمرار والتي تلغي بظلال ثقيلة على المستقبل، ولم يكن  ـ وهذا ليس إفتئاتا ،ولا سراـ  ضمن  أي مرحلة من مراحل نقاش هذه المعضلات قبل تسلمه دفة الحكم عبر قنوات غير ديمقراطية  ـ حتى انتخابه جاء خرقا لكثير من قواعد الشفافية ـ ولا لأنه لم يولد من رحم أي التزام سياسي.  بل في رغبته الدائمة في تجاهل المشاكل العميقة للبلد وتجاوز الطبقة السياسية من جهة، وتعلقه بأوهام الزعامة الوطنية التي تولدت لديه عبر مظاهر الامتنان الفولكلورية  بإيهام من عثاكل البشر التي كان  يحشرها  لتنافس الأطر والوجهاء ـ وهي عادة عرفها الموريتانيون من حقبة الاستعمارـ في استقبالاته  أثناء زياراته الداخلية بتأثير موصول  بالبحث عن مزايا دعم أي  نظام جديد، أثناء ترويجهم لانقلاب على رئيس منتخب تم تجييش الظروف من حوله بدعم وتنظير من لدن نخبة  منخدعة بالشعارات البراقة وبالوعود الزائفة عن التغيير والإصلاح من جهة ثانية، وأغلب الظن أنها ستكون مكلومة اليوم من ذلك الدور. إنه بحق ليس أكثر من محاولة خلق مجد شخصي بالحديد والنار أو -إن صح التعبير- بالإغواء والإكراه، كواجهة على مسار ملطخ بغياب الشفافية والحكامة وتدوير المفاهيم وفساد في العمق.

يعكس حجم الإنفاق الكبير على هذه التغيرات الصاخبة  تناقضها  الصارخ مع شعارات الترشيد ومحاربة الفساد: 6 مليارات أوقية بالنسبة للعملية الفنية للاستفتاء  وحدها دون حساب سلسلة التغيرات الأخرى المترتبة عليها، إضافة لتكلفة طبع عملة جديدة  دفعة واحدة بتقدير 10 أوقية مقابل  طباعة كل ورقة نقدية من ما مجموعه  100 مليار ورقة  ـ وهذه أرقام تقريبية بعيدة من الواقع، ومن تقديرات أخرى 86 أوقية للورقة و500 مليار ورقة في مقال سابق للصحفي الشيخ حيدرا في جريدة لوتانيك مع أن الدولة مجبرة  أيضا على تغيير الكتلة الاحتياطية من الأوراق النقدية التي لم تستفد منها وهي خسارة إضافية مضاعفة،  مع فقدانها جملة الامتيازات التي كان يتيحها اتفاق قديم مع إحدى كبريات الشركات العالمية Geseke et Divelien  الألمانية ، التي يبلغ عمرها 420 سنة في مجال سك العملات، وقد استعانت بها الولايات المتحدة لتأمين الدولار، أثناء التحول نحو الشركة الكندية دون معرفة الأسباب، وعند أخذ الأوضاع المحيطة بهذا الإنفاق  يعد ضربا من خيانة الشعارات بالنسبة  لنظام يحاسب موظفيه على كل دانق ـ حيث تتعالى أصوات المسيرين من سلوك ومهنية أغلب المفتشين (العنجهية والتبجح) وكأنهم عصا النظام التي تملك  تعليمات مسبقة بالحصول إجباريا على ثغرة قابلة للتأويل ـ فرضا وعكسا ـ في أي مكان وصلته أقدامهم، وكأن عزيز يسبغ عليهم شيئا من سخطه على موظفي الدولة ـ ويـُقتِّر على  الوزراء في فاتورة الاتصال حفاظا على رهبانية الشعار الذي يوضع تحت الأقدام في مواقع أخرى أعلى من ذلك لا يطالها التفتيش ولا تعرف الشفافية ،ويمارس عملية شد الحزام التي قضت على ثلاثة أرباع ميزانية التسيير وجعلت الإدارة سلبية وعاجزة  وكئيبة، وضاعف الضريبة على المواد الاستهلاكية من الدرجة الأولى،  كالأرز والحليب، تسع  مرات، وحافظ على ارتفاع نشاز في طول  العالم وعرضه لسعر المازوت، وزاد الضريبة على حديد البناء  وعلى المعجونات الغذائية إثقالا لكاهل المواطن البسيط وإمعانا في طحنه مع غياب فرص الانتفاع من الوفرة التي عرفها البلد والشعارات الرحيمة التي يرفعها الرئيس، وفرض ضريبة على مغامرة البحث التقليدي عن الذهب والترخيص للتنقيب في مواقع مملوكة لشركات أجنبية أخرى بواسطة عقود سارية المفعول مما جعل جهد المواطن وماله مهدورين على كل حال. كما يتسكع ممثلو الحكومة بين أروقة ودهاليز البرنامج العالمي للتغذية ومنظمة التغذية العالمية كبلد يواجه جائحتي الجوع والجفاف، ويمر الشهر على الشهر وتزداد المحن دون أن تحرك حكومة تصريف الأعمال أي ساكن، وتترك الحبل على الغارب للفقر وغلواء الأسعار والبطالة. إنها حكومة بل إنه  نظام لا يسير مشاكل البلد في الواقع بل منكب على تسيير رهاناته مستخدما القوة العمومية لذلك،  وفي  نهاية المطاف ها هي صفحة من نصف التوافق الوطني كانت قائمة منذ الاستقلال تم طيها ويفخر “قائدنا” بميلاد خلافات جديدة ستكون محور التناقض والانقسام والإصطفافات العرقية والجهوية الجديدة، عقب التعديلات الدستورية الأخيرة حتى وإن كانت مترتبة عن نتيجة مرتفعة للتصويت، لكن الكل يعرف أن طريقة إخراجها كانت منافقة بغرض إظهار قلة شعبية المعارضة التي أعلنت المقاطعة النشطة لتغيير الرموز. ليس الوقت مناسبا لهدر ميزانية دولة أثناء سنة جفاف ماحق ويئن ميزان المدفوعات تحت خدمة ديون مرتفعة  حيث يبلغ إجمالي الديون 5مليار دولار أي نسبة  104% من الدخل السنوي الخام تمت استدانتها في فترة الوفرة المعدنية التي عرفها البلد 2008 ـ 2014 دون أي انعكاس إيجابي على واقع الناس بالنسبة للأسعار والاستهلاك والفرص، وحتى عند الحديث عن إنشاء الطرق الذي هو من أهم ما في جعبة النظام  لتبرير هذه الديون وزيادة الضرائب وصرف منتوج الوفرة المعدنية، يبقى أهم طريقين في البلد طريق الأمل وطريق لكوارب  بالنسبة للتجارة والزراعة والنقل مهملتين على مدي سبع  سنوات وهما تحصدان الأرواح، كما يظل الحديث عن أضخم  مشروع  فاضت به المرحلة: مطار إم التونسي الذي يقوم له الترويج بشكل منتظم في دعاية الموالاة في ضوء  صفقة “الأرض” الغريبة والمشبوهة، وبواسطة إدخال اليد في جيوب المواطنين عبر مضاربة رهيبة على الأرض امتصت كل مدخراتهم، وليس من أي من هذه المداخيل، ومع مساوئ  كل هذا التسيير، أي عشرة سنوات من سياسة لا تنظر إلى الشعب لكنها تنظر إلى ثروته وتقوم بخداعه، كان يساور عزيز الشك في البقاء تحت غطاء ما سُميّ استهتارا  متابعة “الإنجازات” عبر هرج  دعائي  لحد الاشمئزاز بل الغثيان  داخل البرلمان وفي أوساط أخرى من الحكومة  والشارع، تَحرم المواطن العادي من المقارنة الحرة  ـ بعيدا عن أي تضليل أو ضغط ـ بين واقعه اليومي ونتائج هذه التغيرات الصاخبة ، وبعد التوجس من حجم المغامرة  يبدو أن عزيز  يتوجه نحو السيناريو “ب” الذي هو التوريث

محمد محمود ولد بكار

 

اترك تعليقاً