القدس العربي: مصـــر سوق سوداء للإقتصاد أم سوق للسياسة ؟

أدلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في بداية الشهر الحالي بتصريحات ألمح فيها لاقتراب إقراره «إجراءات قاسية لإصلاح الاقتصاد». كانت تلك مقدمة لإعلان قبول الحكومة المصرية بشروط صندوق النقد الدولي مقابل إقراضها 12 مليار دولار ولتمهيد الرأي العام لأشكال من خفض الدعم على سلع أساسية وخصخصة شركات مملوكة للدولة ومطالبة المصريين بدعم هذه القرارات.

الأمر لا يتعلّق ـ بحسب تصريحات السيسي ـ بخطر هذه الإجراءات على البلد بأكمله وعلى مستقبل مواطنيه ومعيشتهم (أو كما قال «التحدي مش أبداً في الإجراءات») ولكن في استعداد المجتمع لتقبلها!
ترجمة هذا الكلام هي:
ليس مهمّاً أن تطرد من عملك وتفقد رزقك وتزداد الأعباء الماليّة على كاهلك وأن تفقد الأمل في مستقبل كريم لأطفالك. المهمّ هو أن تتقبّل الإجراءات التي ستقوم بها الحكومة بصمت ومن دون احتجاج. كل ما يحتاجه الأمر هو أن يتلقّى الرأي العام المصريّ «حجما من المعرفة يتيح له إنه يتقبل مني الإجراء اللي أنا عايز أعمله»!
«المعرفة» التي أراد الرئيس المصري نقلها لمواطنيه لخصها بفكرة «إن الدولار سلعة يمكن التعامل بها. ده التحدّي. تنسف الفكرة اللي تشكلت»!
فكرة «النسف» التي طبّقها وروّج لها السيسي خلال عملية مسح الجزء المصري من قرية رفح الحدودية مع إسرائيل، وجدت على ما يبدو سماسرة لها في حلقة الرئيس الاقتصادية، وهكذا فإن الإجراءات التي اتخذتها حكومة السيسي لـ«نسف» فكرة أن الدولار هو سلعة كانت بإقفال 48 من أصل 115 من شركات الصرافة.
إقفال هذا العدد الكبير من شركات الصرافة هو إجراء سياسيّ وليس اقتصادياً لأن إغلاق شركات الصرافة لو تم تطبيقه بالمطلق، فهو كفيل بإخراج مصر من النظام المصرفي العالمي. الإبقاء على شركات وإقفال أخرى، إذن، ليس إلا تضييقا احتكاريّا لمن يستطيع أن يشتري مكانا له في النخبة الماليّة المصرية.
أما سياسة تبسيط الأزمة الاقتصادية المصرية بسعر الدولار فحسب وفكرة «النسف» العسكرية اللصيقة بها (في تصريحات السيسي الآنفة قال إن القوات المسلحة تتدخل دائما لكبح جماح ارتفاع الأسعار!) لا تستطيعان تفسير سبب تضخم الأسعار بنسبة 15٪ سنويّا وتراجع قيمة الجنيه المصري أكثر من 40٪ خلال عام واحد وهبوط الاحتياطيات النقدية خلال خمس سنوات بنسبة 50٪، كما لا تفسر مستويات تصاعد البطالة والفقر، وضعف الإنتاج، وانخفاض معدلات الاستثمار، وتراجع السياحة.
الأهم من كل ذلك هو أن السيسي يتجاهل كلّيّاً أن الاقتصاد هو انعكاس للنظام السياسي نفسه، وأن من يحكم هذا النظام هي نخبة احتكارية تدير اقتصاداً أسود موازياً أدى بحسب هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي المصري للمحاسبات إلى سرقة 67.7 مليار دولار بين أعوام 2012/2015.
هذه النخبة الحاكمة نفسها هي التي عاقبت جنينة بطرده من عمله وتحويله للنيابة العامة وتوجيه عدد من الاتهامات الملفقة ضده وذلك ليكون سابقة تمنع أي مسؤول مصري آخر من الإبلاغ عن الفساد.
صندوق النقد الدولي، الذي أعلن أمس موافقته المبدئية على إقراض السلطات المصرية 12 مليار دولار، لا يفعل عمليّاً غير أن يدعم نظاماً سياسياً متهالكاً لا يمكنه أن يقوم بإصلاحات حقيقية لأنه بسبب تحطيمه لآليات حماية المجتمع المدنيّ وأحزابه ونقاباته وانتهاكه لحقوق مواطنيه وطبيعته العسكرية ـ الأمنية أفرغ قدرات المجتمع على خلق توازن ضروريّ يحدّ من هيمنة حكامه.

اترك تعليقاً