تفجر نزاع الصحراء منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي ضد الوجود الاسباني في اقليمي الساقية الحمراء وواد الذهب ، وقد أخذت الاطراف المحيطة بالإقليم (موريتانيا ،الجزائر،المغرب) مسافة من الصراع في بداياته بحكم العلاقة مع اسبانيا وبحكم عدم تبلور مشروع المقاومة بشكل جدي.
تطورت الأوضاع بعد أن أيقنت اسبانيا أن كلفة الصراع في الصحراء بدأت تزيد خاصة سياسيا بعد توالي استقلال الدول الإفريقية، كانت الخيارات المتاحة أمامها محدودة : منح الإقليم الإستقلال الداخلي تمهيدا لاستقلاله التام أو الرحيل وترك الإقليم يواجه مصيره تجاه جواره المختلف بشأنه.قبل أن يتبلور موقف ثالث أملته دبلوماسية اللحظات الأخيرة التى قادتها كل من انواكشوط والرباط منفردتين في سبيل الإستحواذ على الاقليم وتقاسمه بحكم الروابط التاريخية والسيادة التي يزعم المغرب وبحكم الإمتدادات القبلية والروابط الإجتماعية التى تستند اليها موريتانيا.
قبلت إسبانيا مشروع التفسيم الذي رات فيه حفاظا على ما كانت تطمح له وضمانا لعلاقات متميزة مع المهيمنين الجدد على الإقليم، في هذه الأجواء شهد القضية الصحراوية مفارقتين ستأطران النزاع على امتداد عمره الذي قارب نصف قرن من الزمن ، المفارقة لاولى :تغييب الجزائر عن مشروع التقسسيم الذي أريد للإقليم وهي التى ظلت الى قبيل اللإتفاق بقليل شريكا في الموضوع وكانت قمة انواذيبو بين المختار ولد داداه وهواري بومدين والحسن الثاني ذروة ذلك التنسيق الثلاثي. المفارقة الثانية هي غياب أي صوت لأصحاب الأرض (الشعب الصحراوي)، الذي كان يعيش أجواء الاستقلال الموعود تتراى له نضالات الأفارقة وهم يحصدون استقلالهم البلد تلو الآخر.وكانت المجموعة السياسية الصحراوية (البرلمان) تتهيأ لخطوات جدية في ذلك الإتجاه،يقابلها في طرف المعادلة الآخر شباب متحمسون لطرد المستعمر وفرض الإستقلال ولو بالقوة.
هاتان المفارقتان؛ استبعاد الجزائر و ممثلي الشعب الصحراوي من تقرير رسم مصير الاقليم شكلتا رافعتين قويتين لما سيعرف لاحقا بالنزاع الصحراوي اطول النزاعات المسلحة بعد القضية الفلسطينية، لم يكد يجف حبر اتفاقية مدريد لتقسيم الصحراء حتى انفجر الصراع المسلح بين جبهة البوليزاريو حديثة النشأة من جهة والمغرب وموريتانيا من جهة أخرى، وكانت كل المعطيات تقول بدعم الجزائر للبوليزاريو نكاية بحلفاء الامس الذين ألغوا دورها في رسم مستقبل الاقليم.
بدأت الحرب على كل الجبهات واستخدمت فيها كافة الاسلحة، وكانت اولى نتائجها تهجير سكان الإقليم من التجمعات والقرى والبلدات الصحراوية التى بدأت تتعرض لقصف الطيران المغربي، وطيران فرنسا الداعم لموريتانيا بالإضافة الى طلائع الجيوش المغربية التى بدأت الزحف على الصحراء ولم تتقف الا بعد أن اكتسحت شمال موريتانيا بذريعة الدفاع عن حليفها وكانت حاميات بيئر ام اغرين وافديرك تعج بالجنود والعتاد المغربيين. في ظل السماء المشتعلة والأرض الملتهبة تحت اقدام سكان الصحراء البدو الرحل وسكان الارياف كانت الحدود الجزائرية المتاخمة للصحراء الملاذ الآمن لموجات المهجرين، وبدأت في استقبال افواج اللاجئين لتتشكل بداية النواة الأولى لمايعرف الآن بمخيمات تيندوف و التى شكلت الثقل السكاني والعمق الاستراتيجي لجبهة البوليزاريو.
استمرت الحرب بين الأطراف المتنازعة وكانت استراتيجية البوليزاريو منذ اللحظة الاولى هي التركيز على الحلقة الأضعف في التحالف المناوئ لها وهي موريتانيا لتتهاوى بعد اشتداد وطأة الحرب عليها وتفيق في العاشر من يوليو 1978 على وقع احذية العسكر تجوب جنبات القصر الرئاسي بانواكشوط معلنة الانسحاب النهائي من الحرب لتتطور الامور سريعا وتعترف موريتانيا بالجمهورية الصحراوية مشكلة بذلك قطيعة مع المغرب ثم تحاول لاحقا أقلمة موقفها مع تطورات الصراع مخففة حدة التعاطي مع البوليزاريو ومنتزعة حيادا ثمينا تجاه القضية حافظت عليه رغم الضغوط الكبيرة عليها من هذا المحور أو ذلك.
بعد هذا التطور تفرغت جبهة البوليزاريو لقتال المغرب لترسم يوميات الحرب المريرة مآسي لا زالت مستمرة حتى الآن ولتتشكل فصولها عبر أدوات الحرب الباردة وصدام المعسكرين الشرقي والغربي و صراع النفوذ الاقليمي وتصفية الحسابات الدولية، اسلمت هذه الوضعية الصراع لنوع من التوازن السلبي المأجج للصراع وهو ما ساهم في انهاك الاطراف ليدفعها اليأس من النصر الى قبول الحل الاممي المتمثل في استفتاء الشعب حول مصير الاقليم بين الانفصال او التبعية للمغرب، وقد بدأ مسلسل الحل السلمي بوقف اطلاق النار مطلع التسعينات ثم بدء مسارات احصاء السكان وتحديد هوية الناخبين، وانطلاق جولات المفاوضات الثنائية المباشرة بين البوليزاريو المغرب.
غير أن عقدا من الزمن كان كفيلا بأن يوصل الاطراف وخاصة الفاعلين الدوليين الى قناعة استحالة تطبيق الحل الاممي بصغته الحالية وهو ما اوحى الى الاطراف المتنازعة بالبحث خارج الدائرة وخاصة المغرب الذي عرض حلا يقوم على منح الاقليم حكما ذاتيا موسعا لا يصل حد السيادة وهو ما رفضته البوليزاريو وتمسكت بالحل الاممي او على الأقل جزئية الاستفتاء على تقرير مصير الاقليم.في اجواء التململ هذه اصبح الاقليم يعيش حالة من اللاحرب واللاسلم تنذر بالانفجار في كل لحظة. في ظل غياب الثقة وتخوين الامم المتحدة من طرف المغرب الذي اعتبرها منحازة للطرف الصحراوي بعد تصريحات امينها العام حول اعتبار القضية تصفية استعمار ودفع بعض الهيئات الأممية الى اعطاء دور في مجال مراقبة حقوق الانسان في الاقاليم التابعة للمعرب وهو ما اعتبره المغرب خرقا لسيادته مما استدعى منه طرد ممثلي الامم المتحدة الاداريين من العيون عاصمة الاقليم والابقاء على عناصر الارتباط العسكري.
في ظل هذه الظرفية المعقدة جاء رحيل الامين العام لجبهة البوليزاريو محمد عبد العزيز بشكل مفاجئ ليضع العبئ على قادة البوليزاريو ليس فقط في تعيين قيادة قوية تحظى بالاجماع وإنما أيضا في تطوير وسائل الصراع وفتح آفاق جديدة للحل فعلى مدار اربعين سنة استطاع محمد عبد العزيز الحفاظ على زخم القضية رغم الصعوبات التى واجهها وانهيار المعسكرات التى كانت تدعمه وتطور العلاقات الدولية . وكانت اهم تلك النجاحات فرض الحضور الصحراوي على المحفل الافريقي (الاتحاد الافريقي) ووصوله نيابة رئاسة المنظمة قبل وفاته بقليل.
و بالرغم من دقة المرحلة وحجم التحديات التى تواجه البوليزاريو، الا أن هناك عوامل هامة تدفع في اتجاه تجاوز المرحلة بنجاح. ومن أهم هذه العوامل:
1. وجود قواعد تنظيمية متماسكة لازالت قادرة على رص الصف وحشد الشعب الصحراوي خلف قيادته الجديدة.
2. وجود مؤسسات تنظيمية فاعلة ومحددة الصلاحيات تقوم بدورها السياسي بشكل فعال وهي قادرة على قيادة المرحلة حتى انتهاء اعمال المؤتمر الطارئ وتعيين قيادة جديدة.
3. ضعف المعارضة الداخلية للخط العام للبوليزاريو رغم ما يقوم به المغرب من محاولات شق صف الحركة وخلق جسم موازي لها.
4. الحالة الاجتماعية فبالرغم من الظروف الصعبة التى يعيشها الشعب الصحراوي في مخيمات اللجوء الا أنه يشهد لحمة واضحة والتفاف حول ثوابته الوطنية التى أصبحت تشكل بعدا اجتماعيا لا يقل عن البعد القبلي والعشائري وهو ما يحول دون الكثير من التجاذبات والخلافات المتوقعة في مثل هذه الظروف.
هذه المنطلقات تشكل أرضية صلبة تستطيع جبهة البوليزاريو أن تقف عليها لتختار قيادتها الجديدة للمرحلة القادمة. ويضاف الى كل هذا وجود قيادات ذات مصداقية وماضي نضالي مشهود واكبت انطلاق الثورة وتبوأت مناصبها القيادية من أوفرها حظا نجد ابراهيم غالي من مؤسسي النواة الأولى للجبهة وأول أمين عام لها، وقد تقلد منصب السفير في الجزائر لفترة طويلة، كما تقلد منصب وزير الدفاع داخل الجبهة لأزيد من 13 سنة، بالإضافة إلى أن انتمائه لقبيلة ” اركيبات” ذات العدد الكبير الذي يعطيه الشرعية الداخلية و القبول من طرف غالبية مكونات الشعب الصحراوي، وما يقرّبه أكثر من الكرسي هو أنه كان محل ثقة لدى الراحل وأثنى عليه كثيرا خلال كلمته الأخيرة عند تسلمه لمهامه.الشخصية الأخرى هي محمد خداد: منسق جبهة البوليساريو مع بعثة الأمم المتحدة في الصحراء الغربية (المينورسو) وهو المكلف بالعلاقات الخارجية في الجبهة. يتمتع بحظ وافر في خلافة الراحل نظرا لعلاقته الخارجية الواسعة و ثقافته الكبيرة وقد كان الرجل ضمن الوفد الذي فاوض الملك المغربي الراحل الحسن الثاني وولي عهده ووزير داخليته سنة1996. من الشخصيات التي ينظر لها كذلك عبد القادر الطالب عمر : هو الوزير الأول الحالي ، ويوصف بأنه رجل إجماع، وهو عضو مؤسس لجبهة البوليساريو كما انتُخب في مكتبها السياسي خلال مؤتمرها التأسيسي في 10 مايو 1973.وإذا كان هذا بعضا من الشخصيات المرشحة في الاوساط السياسية فإن هناك شخصيات أخرى قد تكون صانعة للحدث وإن لم تتصدر مشهد خلافة الامين العام ونقصد هنا قيادات كبيرة تكفل بخبرتها و تجربتها نجاح الامين العام المرتقب، على رأس هولاء البشير مصطفى السيد الاخ الشقيق لمفجر الثورة وملهمها الولي مصطفى السيد و محمد الامين البهالي ، المحفوظ اعلي بيبا وآخرين.وفي انتظار الحسم تبقى الاعناق مشرأبة لنتيجة المؤتمر الطارئ الذي تقرر عقده ببير لحلو يومي 8 و9 يوليو القادم الذي سيحسم موضوع الامين العام والمكتب السياسي .