ما أروع أن يكون الواحد مفوّها، خطيبا، ذرب اللسان، فيوفّق في التعبير، بشكل واضح، عما يريد إيصاله من أفكار.. وما ذلك، إلا لأن لديه ما يقول..
فكما قال الأديب والناقد الفرنسي الكبير ”ابْوالو”: ”إن ما يتم تصوّره في الذهن بشكل جيّد، يأتي التعبير عنه بشكل جيّد”.
وما أروع أن تسعف الخطيب في ذلك، ملكة مصقولة، وموهبة فطرية، وخلفية فكرية عميقة، وأن يكمّل كل ذلك بمستوي عال من تطويع لغة الضاد الجميلة..
وأن يضاف كل ذلك إلى مشوار معتبر من الممارسة السياسية، والدربة الخطابية في المحافل.. وما أروع أن يوفق الخطيب في انتقاء واختيار الألفاظ التي تناسب الظرف الذي يتحدث فيه.. والأروع من كل ذلك أن تكون لغة الخطاب، بلحْن الخطاب، وفحْوى الخطاب، تسهم إسهاما بالغا في الحدّ من توتّر الأجواء، وقسوة الألفاظ، وعنف المفردات…
كل هذا بالتأكيد مفيد، وهو على درجة بالغة من الأهمية، ونحن على أعتاب حوار سياسي، يريد له المواطن الموريتاني أن يكون شاملا، جامعا، مانعا، جديا، حازما، صريحا، وملتزما؛ توضع فيه المصالح العليا للوطن، موريتانيا، فوق كل اعتبار… وأن تتنادى له جميع الأحزاب السياسية، بدون أي استثناء..
ولعلّ ذلك ما أبان عنه السيد جميل ولد منصور، زعيم حزب التنمية والإصلاح (تواصل) وعلى عادته، بما عرف عنه من تمكن من ناصية التعبير، ودقة في اختيار المفردات… خلال حفل الإفطار الذي نظمه حزبه أول أمس…
وقد وفق حزبه، حزب ”تواصل” ، وهذا انجاز في حدّ ذاته، في دعوة جميع الطيف السياسي، تحت سقف، أو ظل خيمة واحدة، في مشهد رائع، يجسد عمليا إمكانية جلوس جميع الفرقاء السياسيين على مائدة واحدة، مهما كانت اختلافاتهم، ومهما كان تباين وتعارض آرائهم…
لكن خطابه في محاوره ”السياسية” كان عاما، ومائعا إلى حد بعيد…
فثالوث ”الطغاة والغلاة والغزاة” الذي تحدث عنه، وإن كان صحيحا إلى حدّ كبير، كتشخيص لواقع ”الأمة” إلا أننا في موريتانيا نعاني من ثالوث آخر، أكثر مباشرة والتصاقا بنا، كان الأجدر به الحديث عنه، وهو ثالوث ”القبلية، والطبقية، والعرقية”، وهو ثالوث له وجه آخر، في غاية القبح يتمثل في ”الجهل، والجوع، والمرض”؛ وهما الثالوثان الصنوان، اللذان لم يوفق التيار الإسلامي في موريتانيا، حتى الساعة على الأقل، مع امتلاكه أوراقا رابحة لذلك، للتصدي لهما بحزم؛ ومواجهتهما، ومحاربتهما، بغية القضاء عليهما…
ولكن حديث الرجل عن ضرورة ”حوار سياسي شامل” بضماناته، ومقدماته، ومضمونه، ومساره، ومخرجاته، وعن أولوية الحفاظ على الوطن، وقد سماه ”الكيان”، على ”إصلاحه”، مع تفضيل وتغليب ”الحفاظ والإصلاح معا”، هو حديث موفق إلى حدّ بعيد، وقد سجّل الجميع حسن تخفيف اللهجة من طرف حزبه…
فترطيب الأجواء، والإسهام في التخفيف من حدّة التوتر العام، وحدّة الاستقطاب السياسي، مهمّ للغاية.. كما أن كل مواطن موريتاني حريص على مصالح وطنه، يتمني أن يلتحق حزب ”التكتل”، حزب أحمد ولد داداه، بنفس المسار وأن تكف الأقلام العنيفة، لبعض منتسبيه، عن شخصنة الصراع مع الرئيس، وأن تكف عن الإصرار على تناول الخصوصيات ”الأسرية” لشخص الرئيس… وأن ترعوي عن المكابرة، ونكران ”الإنجازات” التي تم تحقيقها… والمراهنة على المزايدات الخاسرة…
وأن تختار، وهذا واجب جميع الأحزاب السياسية اتجاه الوطن، تغليب المصالح العليا لبلدنا ، وحفظ أمنه واستقراره السياسي، والإسهام في ترسيخ الممارسة الديمقراطية عندنا، عن طريق امتلاك الشجاعة اللازمة، والتحلي بالحنكة السياسية الضرورية، والتعامل بشكل إيجابي مع كل يدٍ تمتد للحوار، للأخذ والعطاء، للتنازل المتبادل، وللتفاهم على ما يخدم مصلحة الشعب الموريتاني، والوطن، موريتانيا… فالمهم، أولا وأخيرا، هو مصلحة الوطن والشعب…
يتمني الجميع كذلك، أن يشرع حزب ”اتحاد قوي التقدم” ، حزب ولد مولود، في إعطاء مؤشرات إيجابية، وأن يلتحق بالحوار هو الآخر؛ وأن تحذو باقي الأحزاب السياسية الأخرى، مهما كان مستوى تشددها في معارضتها، حذو حزب ”تواصل” فتعطي مؤشرات إيجابية على الذهاب إلى الحوار، من دون شروط ”متعنتة”، حتى يسهم الجميع في خلق الأجواء المناسبة لحوار مسؤول وبنّاء، يعود بالخير والنفع على وطننا العزيز علينا جميعا، موالاة ومعارضة…
هذا مع العلم أن أحزابا وازنة أخري، كحزب ”التحالف التقدمي الشعبي”، برئاسة السيد مسعود ولد بلخير؛ وحزب البديل، وحزب الصواب، وأحزابا عديدة أخرى، قد حسمت أمرها منذ البداية، وأعلنت عن مشاركتها في الحوار.. مما يعزّز، من دون أدنى شك، فرص نجاحه، خصوصا، وكما أسلفت، إذا تنادت له جميع الأحزاب السياسية.
فليشارك الجميع في الحوار السياسي، ولنتعود جميعا أن نجعل من القرآن الكريم مرجعا، وملاذا، وحصنا منيعا لنا، في مهمات أمورنا، وعامة شأننا قال تعالي: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} وقال عزّ من قائل: {والصلح خير}؛ وقال جلّ من قائل: {ولا تنسوا الفضل بينكم}؛ وقال جلّ شأنه: {ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} صدق الله العظيم؛ فما أحوجنا، ونحن في هذا الشهر العظيم، شهر رمضان، شهر القرآن، أن نمتثل جميعا، ونطبّق جميعا، موالاة ومعارضة، هذه المعاني والقيم السامية…