و إن الأمور بخواتيمها ..كما أنه لا حوار سلبيا مطلقا. الحقيقة الأولى تفرض نفسها عند كل نهاية نفق يخرج منه الحوار بقوة دفعه من خلال ما يتم عليه الوفاق و تهدأ معه المواجهة. و أما الثانية فيعرفها و لا يدرك حجمها الجميع حقا رغم بداهيتها حيث التناوب في الأخذ و الرد حول الأمور التي يتجلى
فيها الجدل و تبرز الخلافات، يشكل الغربال الغير مرئي لكنه المحسوس لأوهام المواقف و تشعبات الرؤى المتباينة و التأويلات الأحادية و الاحكام المسبقة و كل التصورات المتعارضة.
من هنا يظل لزاما على كل حاملي الرؤى المتباينة حول قضايا مشتركة و إلى أهداف متقاربة في قيمها العليا مهما كانت درجات هذه الخلافات و مستوى عمقها أن يستجيبوا لإشارات و نداءات و دعوات الحوار حتى يسمع كل ما عند الآخر و بالأخص مما يخالف نظرته و يناقض طرحه. و هي العقائد في مجمل حقل السياسة التي تحسن من قواعدها و تحور من بنياتها تراجع من مواقفها بمقتضى قوة و موضوعية و عقلانية ما تجنيه من سنة التبادل بعيدا من الجمود و التزمت و التعصب و سعيا إلى إيجابيات التجديد البناء و توسيع الآفاق.
و هو الأمر الذي اعتد به البعض فأقدم على الحوار”الشامل” مشاركا و لم يأخذ به البعض الآخر متحججا بما قال إنه تعارض النداء مع أية رغبة حقيقية فيه و الاستماع إلى الصوت الآخر. و أما الملبون فهم مجموع أحزاب الأغلبية و على رأسهم حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحزب الحاكم، و مجموعة الأحزاب التي تدعى بالمعاهدة أو بالمعارضة المحاورة و المعتدلة، و أحزاب خرجت على المنتدى و منظمات غير حكومية و آخرين مستقلين غص بممثليهم قصر المؤتمرات طيلة ثلاثة جولات امتدت لثلاثة أسابيع في قاعات و أروقة قصر المؤتمرات في العاصمة من يوم 29/09/2016 إلى غاية 20/10/2016 حيث أسدل الستار و قد عرفت خلالها تمديدين بطلب من المشاركين لتعميق النقاشات و تضييق هوة الخلافات التي ظل بعضها عميقا أرغم يعض المشاركين من الأحزاب إلى الانسحاب محتجا على ما ادعى إنه هيمنة طرف الأغلبية الأكثر حضورا و الأقوى مكانة و إصرارها على تمرير نقاط لم يتم عليها الإجماع و أخرى تباينت حولها القراءات.
و لما كان الإجماع شبه حاصل على مجمل القضايا التي أثيرت في عديد الورشات فإن مسألة الدستور و مأمورية ثالثة للرئيس محمد ولد عبد العزيز أثارتا جدلا كبيرا و خلافات بارزة و تأويلات متباينة ما بين الرافضين إمكانيتها و المتحمسين للعب كل الأوراق لجعلها واردة و قابلة للتحقيق. و في هذا الصدد قال الرئيس في خطاب الاختتام:
وبخصوص المادة 28 من الدستور فان تعديلها يصب في مصلحة شخص واحد هو رئيس الجمهورية، ورغم أن الكثير من المشاركين طالبوا بتعديلها لكنني أنا لم يسبق لي أن طالبت بذلك تعديلا أو تغييرا تحت أي ظرف كان، ولم يسبق لي كذلك أن تحدثت عن رغبتي في مأمورية ثالثة، وبالتالي فان دستور الجمهورية لا ينبغي ان يكون موضوعا لتلاعب البعض من خلال التعديل لمصلحة شخص او فئة وإنما يجب أن يتم ذلك على أساس المصلحة العامة، سبيلا لترسيخ الديمقراطية وهذا ما ينبغي أن نسعى اليه ونهدف له”.
و إذا كان الكثير من الموريتانيين يرى في هذا التصريح القشة التي قصمت ظهر بعير المعارضة وعرى أسباب التمرد و العداء اللذين لا ينقطعان للنظام و رأسه وهي التي أعلنت منذ البداية بأن هذا الحوار عبارة عن التفاف جديد أو انقلاب على الدستور و أنه مناظرة “ماكيافيلية” للوصول إلى تمرير إمكانية قيام مأمورية ثالثة يتمثل الطريق إليها في وضع معالم لجمهورية جديدة على خلفيات مستجدة منها تعديل العلم و النشيد الوطني و إجراء استفتاء عليهما و استحداث مجالس أو أقطاب جهوية محل مجلس السيوخ الذي كان رأي ولد عبد العزيز واضحا بشأنهما، و بالطبع فإن ذلك لن يمنع فيما بعده من الاستفتاء على تغيير للدستور.
و يبقى بين هذا و ذاك من المنطقي أن لا يتم الاستصغار من شأن نقاط التوافق التي حصلت حول مجموعة من القضايا المتعلقة بشتى أوجه الإصلاح المطلوبة بإلحاح منذ استقلال البلاد كما اعترف و عبر عن ذلك رئيس الجمهورية حين أثار ضرورة اللامركزية و الاهتمام بولايات البلد التي تعاني كلها و إن بتباين شديد؛ وهي في مجملها النقاط أيضا التي تناولتها ورشات كانت فيها النقاشات بمستوى عال من الالمام و الإحاطة و برسم أهداف موضوعية مشروعة مطلوبة و ملحة.
كما أنه يبقى من الضروري القول بأن الإقصاء و الانفراد بالقرار في المعالجات السياسية أمران مخلان بالديمقراطية و لا يمكن إلا أن يفتحا الباب على ما هذا الوطن في غنى عنه مهما كان مستواه و درجة الاحتقان التي تتمخض عنه و كذلك تعطيل المسار التنموي الذي ينجر عنه بشكل أو بآخر و علما بأن الدول لا تسير بسرعتين و في اتجاهين معا و إنما اتجاه واحد و وضعية تكون فيها المعارضة العين و الرقيب و الحسيب. و إن عكس ذلك سيظل يشد البلد إلى ماضوية لم تعرف أن تترك يوما لسيير دولة جامعة أسلوبا أو سلوكا أو خطابا. فهل تظل حال البلد على هذا النمط الماضوي “السيبوي” و لا يستلهم سياسيوه دروسا من العصر و الجوار و العولمة و لا يباشرون التطبيقات إلى طموحات أوسع أفقا من السعي إلى الحكم.