النشيد والعلم … فماذا بعد؟

%d9%82%d9%84%d9%851

ذات مرة دخلت السوق نوعية من الشاي الأخضر الرديء تسمى “لمْكَيْركْبَ”، فكسدت في السوق حيث امتنع الناس عن شرائها؟ لكن عبقرية تجارنا الميامين تفتقت عن خطة جهنمية لإرغام المستهلك على شرائها، تمثلت في رفض بيع الشاي الممتاز “وِيمِيلْ” إلا رفقة شيء من “لمْكيركبَ”. وبذلك نجحوا في استنفاد الكمية التي دخلت السوق منها، وأصبحت هذه النظرية تعرف في “علم الاقتصاد الموريتاني” بــــ “اتْرابِيطْ ويميل أولمكيركبه”.
أعتقد أن المعارضة الوطنية – عكساً لما يظلمها به البعض – قد لعبت أدوارا كبيرة على الساحة الوطنية، لو لم يكن منها إلا وقوفها قذاً في وجه إطلاق النظام عنان تصرفاته لكفى. لكنها ترتكب – في رأيي الشخصي – خطأ استراتيجيا كبيرا بوقوفها ضد تغيير النشيد الوطني، والعلم، وإلغاء مجلس الشيوخ. ذلك ببساطة متناهية أنها ستفقد التجاوب في موقفها هذا من قبل كثير من الناس (أعرف شخصيا الكثير منهم وأجهل الكثير) تلبي هذه التغييرات الثلاثة رغبات جامحة في نفوسهم، بالرغم من أنهم لم يتخندقوا يوما من الأيام إلى جانب النظام الحاكم، وسيجدون أنفسهم مرغمين على تجرع مرارة الوجود في موقف لم يألفوه من الوقوف إلى جانب النظام في هذه المعركة؛ بما يستتبع ذلك من الانعكاسات المحتملة، والمعتادة في مثل هذه المواقف من التغيّر غير المبرمج للولاءات، بسبب أخطاء كان من الممكن تجنبها.
إن الأسباب التي جعلت هذه التغييرات تلبي رغبة كثير من الناس تتمثل فيما يلي:
أولا: النشيد الوطني: حقية الخلاصة فيما يستند إليه المتشبثون بالنشيد الحالي في السجال الدائر اليوم، هو أن قائله هو العلامة باب ولد الشيخ سيدي، وأن مضمون التوجيه فيه لا يمكن أن يكون إلا محل إجماع لدى المسلمين. وهذان الأمران لا خلاف  فيهما قطعا؛ فالعلامة باب هو أحد الأعلام الأجلاء لهذه البلاد، لكنه لم ينشئ هذه الأرجوزة لتكون نشيدا وطنيا؛ فليس من العقوق له إذن، عدم متابعته في موقف لم ينشئه ولم يتبناه، وهو أن يتخذها الموريتانيون نشيدا وطنيا في دولة ما بعد الاستقلال. أما مضمون الأرجوزة، فليس محل خلاف أيضا، لا عند الموريتانيين ولا عند غيرهم من المسلمين. لكن مضمونها لا يتعدى الجانب الديني، مما يجعلها صالحة لأن تكون “نشيدا دينيا”، لا “نشيدا وطنيا”. فالوطن ليس ديناً فحسب، لكنه: دين، ودنيا، وبناء، وحماس، ومقاومة، إلى غير ذلك من مقومات الوطن التي لا تستجيب هذه الأرجوزة إلا لعنصر واحد منها؛ هو العنصر الديني. لهذا ظل الوجدان الوطني غائبا كلياً في مضمون هذا النشيد الذي اختار نصّه جيلُ التأسيس على عجل فيما يبدو، بفعل تزاحم المشاغل في إنشاء دولة جديدة. وبذلك ظلت موريتانيا في الواقع بلا نشيد وطني ؛ يخاطب حماس الجندي في دفاعه عن وطنه، والمواطن في استشعار وطنيته، والمقاوم في الإشادة بتضحياته، إلخ.
وليسمح لي من يخالفني الرأي، بالقول بأن ما يراق اليوم من حبر في هذا الموضوع هو سجال مفتعل، يتغذى على مواقف مسبقة، أجنبية على الموضوع تماما.
ثانيا: العلم الوطني: صحيح أن العلم الوطني بشكله الحالي جميل المبنى والمعنى، وأنه حري بدغدغة مشاعرنا عندما نراه مرفرفاً في سماء الوطن أو بين غيره من الأعلام في الخارج. لكنّ الصحيح أيضا أن هذا لا يدل بأي حال من الأحوال على استحالة تكثيف شحنة الاعتزاز به، لاسيما عند تضمينه لَمسةَ وفاءٍ لمن جادوا بأرواحهم فداء للبلاد التي يرتفع هذا العلم رمزا لكيانها؛ فالوفاء شيمة الأحرار، ولا خير في شعب لا وفاء له. وأعتقد أن من يحاولون إيهام العامة بأن اللون الأحمر من خصائص الشيوعية يتناقضون لأكثر من سبب؛ ففضلا عن أن واقع أعلام الدول الموجودة اليوم يكذب هذا الادعاء، فإن مجرد الاعتراف بأن الشيوعيين يجعلون اللون الأحمر في الأعلام وفاءً لدماء “شهدائهم” الكفرة، يستدعي منا ألا نكون أقل منهم في ذلك؛ فنحن أحق بالوفاء منهم، و”نحن أحق بموسى منهم”، كما قال الصادق المصدوق عن اليهود في قصة عاشوراء.
وليس العلم أكثر من “رمز لقيّم كيان”، ومن العيب أن يسعى أحياء ذلك الكيان إلى الاستئثار بمدلولاته في تغييب متعمد لتضحيات أمواته. أضف إلى ذلك أن حمرة الدم التي يتشاءم بها (الفزعون من الموت)، هي التي زكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتدحها قائلا بأن “اللون لون الدم والريح ريح المسك”، وأمر بعدم إزالتها، لأنها شرف ما بعده شرف.
ثالثا: مجلس الشيوخ: لا يستحق قرار إلغاء مجلس الشيوخ أكثر ولا أقل من الحمد والشكر لله تعالى على إلغاء هيأة تثقل كاهل الميزانية العامة، دون أن يكون لها من دور غير رفع الأيدي ولأرجل للمصادقة على أي قرار ترغب الحكومة في تمريره.؛ فهي ليست إلا محاكاة عمياء لبلدان لا اشتراك بيننا وإياها في الخصائص أو الأوضاع الديمقراطية.
أعتقد أن تغيير هذه العناصر الثلاثة: النشيد، العلم، مجلس الشيوخ، يستجيب لرغبة واضحة لدى جمهور عريض من الموريتانيين، وهو ما سيعطيه رافدا كبيرا في أوساطٍ شعبية تقليدية الولاء للمعارضة. فإٍذا أضيف الرافد الجديد إلى جناح الولاء التقليدي للدولة، كان ذلك مرجحا أكيدا لمسعى الحكومة في التغيير، وانتكاسة  – لم نكن نتمناها – للمعارضة إذا أصرت على الوقوف أمام تغيير هذه العناصر الثلاثة.
إنني هنا أناقش ما هو معلن حتى الآن في الاستفتاء من تغيير للنشيد والعلم والشيوخ؛ فهل هناك أمور أخرى تسعى السلطة إلى تمريرها تحت غطاء ما تحسه من رغبة شعبية في تغيير هذه العناصر الثلاثة؛ عملاً بـــ “النظرية الاقتصادية الموريتاية”: (اتْرابِيطْ وِيمِيلْ أولمْكَيًركْبَ)؟
أتمنى ألا يكون الأمر كذلك
الدكتور/ محمد محمد عبد الله السيد

اترك تعليقاً